استجلب عرض خطة «صفقة القرن» جملة من الفرضيات والتخمينات بشأن كيفية تأثيرها فى حياتنا كإسرائيليين فى المدى القريب. هل ستعزز «حزب بيبى» [بنيامين نتنياهو] أم «حزب فقط ليس بيبى»؟ وهل سيجرى فى إثرها ضم منطقة شمال الأغوار حتى قبل الانتخابات، أم بعدها فقط؟ هل سترفضها السلطة الفلسطينية رفضا كليا قاطعا أم ستجد فيها صيغة كافية الضبابية لحفظ ما تبقى من علاقاتها مع الإدارة الأمريكية؟
لكن الأكثر أهمية، بكثير، هى الإسقاطات المحتملة لهذه الخطة على حياتنا فى المدى البعيد. ثمة من يقول إنها مجرد خدعة، ألعوبة انتخابية، اليوم هنا، وغدا ستتلاشى كالدخان. وثمة آخرون يعتقدون أن الخطة راسخة وقابلة للتطبيق، وأن الولايات المتحدة، بالتعاون مع الدول العربية المعتدلة، سوف تنجح فى دفعها إلى الأمام فى الواقع المركّب السائد فى الشرق الأوسط. وأيا تكن الحال، فثمة أثر واحد مباشر للخطة، على الأقل، قد تحقق للمدى البعيد بعد عرضها وجعل الوضع الإسرائيلى مختلفا بصورة جوهرية عمّا سبق: خطة ترامب وضعت نهاية للجدل الحاد والقاسى الذى قسّم المجتمع الإسرائيلى على مدى العقود الأخيرة بين اليمين واليسار بشأن مستقبل «يهودا والسامرة» (الضفة الغربية).
خلال العقود التى تلت حرب الأيام الستة [حرب يونيو 1967] انقسم الجمهور الإسرائيلى وتوزع بين رؤيتين متناقضتين. فى الجانب الأول، رؤية الدولتين. دولة يهودية وإلى جانبها دولة فلسطينية؛ وفى الجانب الثانى، رؤية الدولة الواحدة. أرض إسرائيل الكاملة. إنهما رؤيتان تنفى إحداهما الأُخرى على نحو استوجب الحسم القاطع فيما بينهما. ومن هنا، فقد استقر الحد الفاصل فى السياسة الإسرائيلية عند خط الكسر ما بين اليمين واليسار، بين مؤيدى أرض إسرائيل الكاملة ومؤيدى اتفاقيات أوسلو. كل واحدة من الخطط السياسية التى عُرِضت خلال هذه العقود كانت منذورة للقبول الفورى الحماسى من طرف أحد المعسكرين، فى مقابل الرفض المطلق من جانب المعسكر الآخر.
نجحت خطة ترامب فى تحقيق إجماع الأغلبية الإسرائيلية لأول مرة. فقد محت الفوارق بين الليكود و«أزرق أبيض» اللذين اتفقا على أن هذه الخطة هى المسار المرغوب. لأول مرة، حدث توافُق فعلى بين القسم الأكبر من الأحزاب الصهيونية الكبيرة على الخطوط العريضة العامة لمستقبل المناطق [المحتلة]. مثل هذا التوافق لم يكن قد تحقق من قبل فى إسرائيل منذ أن بدأ النقاش بشأن مستقبل يهودا والسامرة. واتضح الآن أن الأغلبية الإسرائيلية ترفض كلتا الرؤيتين. رؤية الدولتين ورؤية الدولة الواحدة، وتتبنى. بدلا منهما. الرؤية التى يمكن تسميتها بـ«رؤية الدولة ونصف الدولة»؛ أى دولة يهودية تضم القدس الكاملة، وتجمعات المستوطنات اليهودية فى يهودا والسامرة، والمناطق الاستراتيجية ذات الأهمية الأمنية، وإلى جانبها كيان فلسطينى هو أقل من دولة، يشمل أجزاء مقلصة من يهودا والسامرة وله صلاحيات محدودة تماما. ومن الواضح أن ثمة مجموعات فى الهوامش، من اليمين ومن اليسار، ستبقى على رفضها لهذا المسار، وستواصل التمسك بواحدة من الرؤيتين السابقتين، لكن يبدو أن الأغلبية الإسرائيلية قد شقت لنفسها طريقا جديدا بينهما.
من الصعب المبالغة فى مدى ما لهذا التوافق الإسرائيلى الداخلى من أهمية دراماتيكية على مستقبلنا. وحتى من غير المخاطرة فى التكهن بالآثار القصيرة المدى لهذا التوافق فى فترة الانتخابات البرلمانية الحالية، إلّا إن الأمر قد يؤدى، فى المدى البعيد، إلى إعادة ترسيم معالم السياسة الإسرائيلية، وبصورة خاصة توجيه الجهود لعمل أكثر فاعلية فى القضايا المدنية التى جرى إهمالها حيال السجال السياسى. الأمنى الأبدى.
عندما تستبطن الحلبة السياسية الحزبية موافقة الأغلبية الإسرائيلية على «رؤية الدولة ونصف الدولة»، سيكون فى مقدورنا التقدم نحو عقد تحالفات وائتلافات جديدة لا تصرف طاقاتها على أسئلة وقضايا الأمس، مثل اتفاقية أوسلو، بين مؤيد ومعارض. إنها فرصة ثمينة أتيحت للمجتمع الإسرائيلى للتوقف عن إنهاك نفسه بنقاشات حول «عملية سلام» من التسعينيات والعودة إلى مواجهة التحديات المدنية العميقة التى جرى إهمالها طوال سنوات عديدة، مثل دمج اليهود الحريديم [المتشددون دينيا] فى سوق العمل، وتحسين وضع الاقتصاد الإسرائيلى، وإعادة بناء روح الجماعة الإسرائيلية من جديد.