بسعادةٍ بالغةٍ، تلقيت دعوة الوزيرة السفيرة نادية مكرم عبيد للمشاركة فى النسخة الثالثة من مؤتمر «مصر تستطيع»، والذى تم عقده خلال الفترة من 24 إلى 26 فبراير بمدينة الأقصر. وفى الحقيقة، كان حضور المؤتمر فرصة طيبة للقاء كوكبةٍ من رموز المجتمع العلمى المصرى من أساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث، والاحتكاك عن قرب مع نخبةٍ من صانعى السياسات المائية والزراعية، وهو ما منحنى رؤية أوقع لأجزاء من الصورة يصعب على الباحث تصورها وإدراك أبعادها من خلال الاعتماد على مصادره البحثية التقليدية. وكانت مدة الدقائق العشر ــ التى تم تخصيصها لكل مشارك لعرض رؤيته حول مستقبل التنمية الزراعية والريفية فى ضوء قيود الموارد المائية فى مصر ــ تحديا كبيرا؛ إذ كيف يمكن عرض رؤيةٍ مكتملةٍ حول هذه الموضوعات شديدة التشابك والتعقيد بأبعادها المحلية والإقليمية والعالمية، والتى تموج بتحدياتٍ متباينةٍ تتسارع وتيرتها وتتزايد حدتها يوما بعد يوم؛ لذا، فقد قررت أن تأخذ كلمتى شكل «الرسائل النصية القصيرة»، فتلقى الضوء على عددٍ من دروس التنمية المستدامة فى ضوء تجارب التنمية الزراعية والاقتصادية التى مرت بها الدول النامية خلال النصف الثانى من القرن العشرين، كاليابان وكوريا الجنوبية، ثم الصين والبرازيل لاحقا، والتى يمكن أن تسترشد بها استراتيجيات التنمية الزراعية وسياسات الأمن المائى والغذائى فى مصر. وفى السطور التالية، ألقى الضوء على ثلاثة من هذه الدروس التى اشتملت عليها المشاركة.
***
أولا: لا جدال فى أن مسألة توفير الموارد المائية يعد أحد أكبر التحديات ــ إن لم يكن الأكبر على الإطلاق ــ التى نواجهها اليوم فى سبيل تحقيق أهداف الأمن المائى وطموحات التنمية الزراعية. ومع تصاعد أزمة مياه النيل مع دول الحوض خلال السنوات الأخيرة، والذى توفر مياهه 97% من احتياجاتنا المائية، طفت أزمة الموارد المائية على سطح الأحداث، وأضحت تلقى النصيب الأعظم من اهتمام الباحثين وصانعى السياسات. وبنظرةٍ نقديةٍ للاستراتيجيات الحالية المتعلقة بالأمن المائى فى مصر نجد أنها تكاد تقتصر على السعى لتوفير وزيادة حجم الموارد المائية؛ فى حين يغفل الكثير منها ــ إلى حد كبير ــ عن المسائل المتعلقة بضمان سلامة وجودة المياه للاستخدام وللاستهلاك، وإمكانية حصول المواطنين عليها واستقرار إمداداتها. وفى هذا الصدد، تخبرنا أدبيات التنمية الاقتصادية بأنه حين يتعلق الأمر بـ«الأمن» سواء كان غذائيا أو مائيا فإن جهود التنمية ينبغى أن تتوزع بالتوازى وبالتزامن على أبعاد أربعة وهى: توافر المورد بالكميات التى تكفى احتياجات المستهلكين، ودعم قدرة الأفراد على الوصول إليه، واستقرار إمدادات الموارد، ومأمونية وجودة الإمدادات. ولذلك فقد أشرت فى كلمتى إلى أنه ينبغى ألا تشغلنا أزمة مياه النيل عن حقيقة تنموية مفادها أن حيازة الموارد المائية ليست غاية فى حد ذاتها، ولا تعنى مطلقا تحقيق الأمن الغذائى والمائى. فعلى سبيل المثال، نجد أن جمهورية الكونغو الديمقراطية تمتلك نحو 52% من جملة احتياطيات الموارد المائية السطحية فى قارة إفريقيا، ويبلغ نصيب الفرد من الموارد المائية فيها قرابة 17 ألف متر مكعب سنويا، وهو ما يجعلها الدولة الأكثر ثراء من حيث الموارد المائية فى إفريقيا. وعلى الرغم من ذلك، فإنها تعد إحدى أكثر دول القارة السمراء معاناة من مشكلات الفقر وسوء التغذية. فوفقا لأحدث بيانات البنك الدولى فإن نحو 66% من سكان الكونغو يعيشون تحت خط الفقر، كما يعانى ما لا يقل عن 40% منهم من مشكلات متعلقة بجودة المياه والقدرة على الوصول إليها. ولذلك فإن الأمن المائى لا يتحقق بحيازة الموارد المائية وتوفيرها كميا فقط؛ وإنما يتوقف بشكل رئيس على مدى كفاءة النظم فى إدارة الموارد المائية واستخدامها بشكل يحقق متطلبات الأمن المائى والغذائى، وفى الوقت ذاته يصون هذه الموارد ويضمن استدامتها.
ثانيا: كسائر الدول النامية الأخرى، لا يزال القطاع الزراعى هو المستهلك الأكبر للموارد المائية فى مصر. ففى المتوسط يستهلك القطاع الزراعى نحو 70% من جملة الموارد المائية فى الدول النامية. وبسبب أسلوب الإنتاج الزراعى وكفاءة استخدام مياه الرى؛ يرتفع نصيب القطاع الزراعى فى مصر من استخدامات الموارد المائية إلى نحو 86%، تاركا بذلك 2.5% للصناعة ونحو 11.5% للاستخدامات الأخرى. وبناء على ذلك، فإن تشخيصا دقيقا لمشكلات الموارد المائية والطلب المتزايد عليها، ينبغى أن ينظر للمياه من منظور «زراعى ــ غذائى». فعلى سبيل المثال، تصل نسبة الفاقد الكلى فى بعص محاصيل الفاكهة إلى ٤٠% من الإنتاج، وفى بعض محاصيل الحبوب إلى ٢٠% من جملة الإنتاج. وتشير بعض الدراسات إلى أن البصمة المائية للكثير من المحاصيل الزراعية الرئيسية فى مصر تبلغ ضعف المتوسط العالمى، وأن مصر تفقد سنويا ما يزيد على مليار متر مكعب من المياه فى صورة فواقد خلال عمليات الإنتاج والتسويق الزراعى، وهو ما يمثل إهدارا صريحا وصارخا لمواردنا المائية. ولذا؛ فإن هناك حاجة ملحة لأن ينتبه صانعو السياسة المائية فى مصر للدور الحيوى الذى يلعبه القطاع الزراعى فى تحقيق الأمن المائى ومن ثم تتسع رؤيتنا لإدارة الموارد المائية لتشمل سائر حلقات سلسلة القيمة للإنتاج الزراعى من خلال إعادة النظر فى نظام تعاقب المحاصيل الزراعية، وأنواع هذه المحاصيل، وأساليب زراعتها وطرق ريها، وجميع عمليات الإنتاج الزراعى وعمليات ما بعد الحصاد، لتحسين كفاءة استخدام الموارد المائية وزيادة العائد على وحدة المياه وتخفيف الضغط المتزايد على الموارد المائية.
***
ثالثا: إن أحد الأخطاء التنموية التى وقعت فيها الكثير من الدول النامية كان التعامل مع القطاع الزراعى وتقييم دوره من منظور اقتصادى بحت، مغفلة بذلك دوره التنموى فى صورته الشاملة. فمنذ النصف الثانى من القرن العشرين، تراجعت نسبة مساهمة القطاع الزراعى فى الناتج المحلى الإجمالى للكثير من الدول النامية، لتصل فى مصر ــ على سبيل المثال ــ إلى نحو 12% خلال عام 2017 مقارنة بنحو 30% فى عام 1977، وقد اعتمد توزيع الإنفاق الحكومى والاستثمارات القطاعية فى هذه الدول على معايير اقتصادية ركزت فى المقام الأول على القيمة المضافة للقطاعات المختلفة كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى. فانخفضت على أثر ذلك مخصصات القطاعات الزراعية فى موازنات هذه الدول؛ وهو ما ساهم بشكل كبير فى تراجع الإنتاج وتدنى الإنتاجية الزراعية والتعثر فى سد احتياجات السكان من المواد الغذائية، وانعكس بصورة مباشرة على معدلات الفقر ومستويات الأمن الغذائى. وعلى سبيل المثال، ففى الوقت الذى كان ولا يزال فيه الاتحاد الأوروبى وأمريكا يتسارعان فى دعم قطاعاتهما الزراعية، سارعت مصر منذ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين فى رفع الدعم بصورة شبه كاملة عن قطاع الزراعة، وهو الأمر الذى أدى لتدهور إنتاج العديد من المحاصيل الاستراتيجية التى طالما تميزت بها مصر، كالقطن، وساهم فى عزوف العمالة ونفور المستثمرين من القطاع الزراعى، وزاد من اعتمادية مصر على الاستيراد وتبعيتها للأسواق الأجنبية التى صارت تمدنا بنحو نصف استهلاكنا السنوى من الغذاء. ولذلك، فإن رؤيتنا للقطاع الزراعى ينبغى أن تأخذ فى الاعتبار دوره التنموى وعلاقاته المتشابكة مع القطاعات الاقتصادية الأخرى، فلا يزال القطاع الزراعى يشكل النشاط الرئيس لسكان الريف المصرى الذين يمثلون 57% من جملة السكان فى مصر، ويمثل نحو 30% من إجمالى القوة العاملة. وبمراجعة تجارب التنمية فى الاقتصاديات الناشئة نجد أن النموذج المهيمن على التحولات الهيكلية فى هذه الدول قد اتخذ من القطاع الزراعى محركا رئيسا للنمو الاقتصادى لا سيما فى المراحل المبكرة للتنمية الاقتصادية. وبالأخذ فى الاعتبار خصوصية القطاع الزراعى ودوره التنموى الحيوى، فإنه يمكن الزعم بأن هذا القطاع لا بد أن يكون محور الارتكاز للاستراتيجيات الرامية للتنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية فى مصر، ولذلك فينبغى أن تبدى الحكومة حرصا أكبر على الدور التنموى للقطاع الزراعى لا سيما فى توفير فرص العمل وتحسين الدخول، وتحقيق الأمن الغذائى والحد من الفقر، وتداخلاته مع باقى القطاعات الأخرى التى تشكل دعائم الاقتصاد والتنمية.
***
أخيرا، إن التجارب التنموية للدول النامية المشار إليها ــ حتى وإن تباينت الظروف الداخلية واختلفت المتغيرات العالمية ــ تشير إلى أن أى دولة تستطيع تحقيق الأمن المائى والغذائى متى توافرت الإرادة الصادقة والإدارة الرشيدة... واحتضان الأقصر لفاعليات المؤتمر ــ وهى تلك المدينة التى شهدت بناء ميلاد الحضارة الإنسانية وبناء أول نهضةٍ زراعيةٍ عرفها التاريخ ــ يجعلنى أتحلل قليلا من قيود القياس العلمى، وأزعم أن «مصر تستطيع»، فلا تزال الفرص موجودة والإمكانات متاحة لتحقيق الأمن المائى والنهضة الزراعية. ولكن.. تبقى «الاستطاعة» قوة كامنة يحتاج تفعيلها ــ كما قلنا ــ لإرادةٍ وطنيةٍ صادقةٍ ومسئولةٍ، وإدارةٍ رشيدةٍ ترتكز على أسسٍ علميةٍ سليمةٍ بحيث تستوعب قيود الموارد المائية وتحديات الإنتاج الزراعى محليا، وتأخذ بعين الاعتبار التطورات والمتغيرات التى تحيط بهما على الصعيد العالمى، وتنبرى فى إصلاح وإعادة هيكلة السياسات والمؤسسات على مستوى الاقتصاد الكلى والقطاع الزراعى وقطاعات الموارد المائية لتهيئة بيئةٍ مواتيةٍ لتعبئة واستغلال الموارد على نحو فعال، فتمكننا من بناء نظمٍ ممانعةٍ ومرنةٍ ذوات قدرة أعلى على التكيف مع قيود الموارد المائية وتحديات الأمن الغذائى الراهنة والمستقبلية وتحقق تنمية زراعية واقتصادية مستدامة.