نشرت جريدة الزمان العراقية مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان، نعرض منه ما يلى:
أنت وحدك تُعلن من أنت دون أن يضعك الآخر فى زاوية أو يحشرك فى ركن أو ينتقص من اسمك أو لونك أو جنسك أو قوميتك أو دينك أو لغتك أو وضعك الاجتماعى. ولعل ذلك يفترض القبول بالتنوع والإقرار بالتعددية والحق فى الاختلاف، ونبذا لأى عملية صهر أو قهر أو جبر، تارة بزعم «الوحدة الوطنية» وأخرى بحجة «المصلحة العامة»، وثالثة بدعوى «الأغلبية» ورابعة تحت عنوان «التفوق» أو «امتلاك الحقيقة»، تلك التى لا تعنى سوى أحادية وتسيد وهيمنة وعدم اعتراف بتراثات الشعوب ولغاتها وعاداتها وتقاليدها وفنونها وآدابها. إنه باختصار تنكر لخصوصياتها وهوياتها المتميزة على حساب روح التفاهم وثقافة التعاون وواقع المشاركة التى تتحقق بتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق كجزء من ثروات الأمم والشعوب وخصائصها التى تختلف بها عن غيرها.
***
إن الإيمان بالحوار يعنى الإيمان بقيم ومبادئ مفتوحة لكل الناس، فالجميع لهم الحق فى التعبير عن تطلعاتهم فى كيانية إنسانية خاصة ضمن إنسانيات عامة وشاملة.
وبقدر كون الحوار مسئولية فلا بد من تنقية الذاكرة المشتركة مما يشوبها من أحقاد وكراهيات تكدست بمرور الأيام بسبب حروب أو نزاعات، والانطلاق إلى مفهوم التقارب والتشارك دون نسيان الماضى، الذى يمكن أن يكون منصة للمراجعة ونقدا للتجربة، لمنع تكرارها من جهة والاستفادة من دروسها التاريخية من جهة أخرى.
الحوار هو مسار طويل لتحقيق السلم المجتمعى فى كل بلد، وعلى مستوى البلدان والشعوب عموما، وهو الوجه الآخر لمواجهة تحديات التعصب، لاسيما حين يكون هذا الحوار معرفيا وثقافيا وجزءا من إيمان بالانتماء لهوية جامعة على المستوى الوطنى وهوية مشتركة على مستوى شعوب ودول الإقليم، والأمر يشمل فكرة حوار عربى ــ كردى أو حوار إسلامى ــ مسيحى أو حوار عربى ــ إيرانى أو حوار عربى ــ تركى أو حوار كردى مع قوميات دول المنطقة من العرب والترك والفرس أو حوار جامع لأعمدة الأمم الأربعة، كما أطلق عليها سمو الأمير الحسن بن طلال.
وهدف الحوار هو استشراف آفاق حلول للمشكلات وبحث جاد فى أسباب الأزمات وسبل تجاوزها واختيار الوسائل المناسبة لمعالجتها، ولذلك فهو يختلف عن المجاملات الشكلية والمخاطبات الدبلوماسية الناعمة، تلك التى تتجنب بحث الإشكالات والخلافات بواقعية وعدم القفز فوقها.
والمطلوب من الحوار بادئ ذى بدء توفير مناخ صحى لإشاعة روح الثقة وبالتالى التدرج فى تشخيص جوانب الأزمة والبحث فى المشتركات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمواجهتها، وهذا يقتضى تحريره من الإسقاطات المسبقة قوميا أو دينيا أو أيديولوجيا، لاسيما بالعودة إلى علاقات الشعوب والمجاميع الثقافية بعضها مع البعض الآخر، فى إطار البلد الواحد أو على صعيد دول الإقليم فى مشرقه ومغربه، وذلك بتجاوز الثقافة السياسية السائدة القائمة على التهميش والإلغاء وعدم الاعتراف بالآخر، سواء على المستوى الوطنى أو على الصعيد الإقليمى الخارجى، ويتطلب ذلك النهوض بالرسالة الحضارية لفكرة الحوار من خلال كونه استحقاقا لا غنى عنه، والأمر يبدأ بالمراجعة للمشتركات والمختلفات، وللإيجابيات والسلبيات وتأثير دائرة التلاقى والتفاعل، ولن يتحقق ذلك إلا بالمصارحة والشفافية والنقد المتبادل.
وكان أول حوار عربى ــ كردى قد نظم فى لندن العام 1992 بحضور 50 شخصية عربية وكردية فى إطار مبادرة حقوقية شقت طريقها إلى «المنظمة العربية لحقوق الإنسان»، بعد ويلات ومآسٍ لا حصر لها، خصوصا بما تعرض له الكرد من انتهاكات، وكانت مثل تلك المبادرة بمثابة رد اعتبار وسباحة ضد التيار.
كما كان أول حوار بين مثقفى الأمم الأربعة (العرب والترك والفرس والكرد) قد انتظم لأول مرة فى تونس 2016 حين استجاب «المعهد العربى للديمقراطية» لمبادرة تم الترويج لها لأكثر من عقد من الزمان.
وتبعها قناعة من «منتدى الفكر العربى» الذى تحمس للمبادرة، وكان ذلك فى ندوة اتخذت اسم » أعمدة الأمة الأربعة» فى 22 يوليو 2018، وهى مواصلة لندوة حول «الحوار العربى ــ الكردى» فى 1 مارس 2018 حيث صبت بذات الاتجاه وجميع تلك المبادرات اتخذت من الحوار وسيلة ضرورية للتفاهم والتواصل.
وقد أضفت ندوة عمان بشأن «أعمدة الأمة الأربعة» التى كانت برعاية من سمو الأمير الحسن بن طلال على الفكرة وهجا جديدا، وبدأت تتخذ جوانب عملية، خصوصا حين عمدت إلى مأسسة عملها أوليا باتجاه التحضير للقاء موسع وضمن رؤية برنامجية مستقبلية، ولعل مثل هذه المبادرات ليست الوحيدة، فثمة توجهات تتشارك معها فى المنطلق وجدت سبيلها فى رحاب الجامعة اللبنانية فى بيروت (5 يوليو2018) وهى دعوة للتكامل الإقليمى، كما انعقد لقاء تكامليا فى برمانا فى 10ــ11 /5/ 2019 بذات التوجهات والمعنى.
***
لقد كان حصاد الحروب والنزاعات فى الإقليم الذى نعيش فيه والذى يضم الأتراك والفرس والكرد والعرب، عدة ملايين من الضحايا وما يزيد على 12 تريليون دولار فى التقديرات غير المبالِغة خلال العشرين عاما الماضية، وذلك ليس سوى الوجه الآخر لتعويم التنمية أو تعطيلها وعرقلة خطط الإصلاح، فـ«الحروب تولد فى العقول» ولذلك ينبغى «بناء حصون السلام فى العقول أيضا»، ولأن وظيفة النخب الفكرية والثقافية بشكل عام التوجه إلى الإنسان ومخاطبة عقله، فلا بد لها إذا أن تتحرك لتقديم رؤية نقيضة للحرب على الرغم من الخراب وثقافة العنف، وذلك عبر تغليب العقل ومنطق الحوار والتفاهم والتعاون.
ومثل هذه النظرة المستقبلية شغلت مثقفين من بلدان عدة تلمسوا أهمية الحوار خارج دائرة الاشتباكات الأيديولوجية والنزاعات الدينية والطائفية، لأنها تقوم باختصار على أن الأمم والشعوب التى تعيش فى المنطقة والتى تعانى من توترات ونزاعات داخلية وإقليمية وخارجية، تحتاج إلى إعادة بناء علاقاتها مع بعضها لتنميتها بروح القيم الإنسانية التى تمثل المشتركات بين البشر مثل: الحرية والسلام والتسامح والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة واحترام الخصوصيات والهويات الفرعية.
وإذا كانت أوروبا قد سبقتنا بوضع حدٍ لحروبها الطائفية، ولاسيما بين البروتستانت والكاثوليك، وخصوصا «حرب الثلاثين عام»، بإبرام معاهدة وستفاليا 1648 فسيكون جديرا بدول الإقليم وأممه وشعوبه إعادة بناء علاقاتها وفقا لهذه الأسس الجيوسياسية الثقافية وعلى قواعد القانون الدولى المعاصر وميثاق الأمم المتحدة ووفقا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التى يمكن أن تضع حدا لحروب عبثية باسم السنة والشيعة وباسم «الإسلام» ضد الأديان الأخرى، وهذا ما كان قد طغى على خطاب داعش بعد هيمنته على ثلث مساحة كل من العراق وسوريا، لاسيما باستهداف المسيحيين والإيزيديين وأتباع الأديان الأخرى، وجميع المسلمين وفقا لاجتهاداته الجهنمية بتكفير الجميع.
إن النخب الفكرية والثقافية والحقوقية ومن موقعها التنويرى يمكن أن تكون «قوة اقتراح» وخصوصا، حين تستطيع بناء جسور الثقة مع أصحاب القرار، بحيث تصبح شريكا فاعلا ومشاركا لا غنى عنه فى عملية التنمية المنشودة، سواء فى صنع القرار أم فى تنفيذه.
يمكننا تصور كم سيكون وجه الإقليم مختلفا ومكانته كبيرة لو اعتمد صيغة أقرب إلى ويستفاليا تأخذ شكل «تعاهد» أو «ميثاق» أو «اتفاق» عام للسلام أساسه احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل فى الشؤون الداخلية وحق تقرير المصير وإنماء التعاون والشراكة؟ وكم سيكون انعكاسه فاعلا على كل بلد، بل على المستوى الكونى، بالاستثمار لصالح الإنسان وحقوقه وحرياته وتعليمه وصحته وبيئته وتنميته؟ وبالطبع ستفضى مثل تلك العلاقات والتعاون ليس لإنهاء التناحر أو وضع حد له فحسب، بل لتعزيز التكامل بين دوله وشعوبه وأممه، كما حصل فى أوروبا التى تضم شعوبا وأمما ولغات مختلفة، تلك التى توحدت فى الاتحاد الأوروبى.
وبتقديرى إن أمم الإقليم ودوله ستتمكن من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بصورة أكفأ وأسلوب أجدر فيما لو كانت متعاونة بين بعضها البعض وموحدة الأهداف مع مراعاة خصوصية كل منها، بما فيها من تنمية بكل جوانبها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتربويا وقانونيا وصحيا وبيئيا ومائيا وخدماتيا وغيرها، وبالطبع فذلك يتطلب أولا: وقبل كل شىء وقف الحروب فيما بينها سواء المباشرة أم بالواسطة، وثانيا: اعتماد الحوار والحلول السلمية وسيلة لوضع حد للصراعات القائمة، خصوصا وأن الحوار أثبت جدارته كوسيلة فعالة للتفاهم والتعاون بين الأمم والبلدان.
***
إن نقيض الحوار هو استمرار الحال على ما هو عليه من تنافر وتباعد وانغلاق وتشظى وتشتت وتفتت وانقسام، أو تفاقم الأوضاع وازديادها سوءا وتدهورا، وستكون انعكاسات ذلك وبالا على التنمية وحياة الإنسان، فضلا عن تعقيد أوضاع الإقليم وعلاقاته، وسيعطى للقوى الخارجية مبررا لاستثمار الخلافات لإخضاع دول وشعوب المنطقة للهيمنة والاستتباع.
وإذا كان العالم يتجه أمما وشعوبا نحو التقارب والتعاون والتكامل، فإن شعوب الإقليم وأممه ما زالت تعيش حالة من عدم الثقة والنزاع والاحتراب، فى حين يفترض فيها التلاقى والتراضى والتشارك، لما يجمعها من تاريخ مشترك وديانات وقيم مشتركة وعلاقات اجتماعية متداخلة وإمكانية تكامل اقتصادى وغيرها.
ولعل هذا الأمر سبب آخر لراهنية الحوار وضرورته لأنه بهذا المعنى يصبح «فرض عين وليس فرض كفاية»، خصوصا حين تواجه دول الإقليم ظواهر التعصب والتطرف والطائفية والعنصرية والإلغاء والتهميش، فضلا عن العنف والإرهاب، بل وتهديد الدول الوطنية، وأعتقد أن نموذج داعش ينبغى أن يظل ماثلا نصب العين باستمرار كتهديد حقيقى للسلام والأمن والتنمية على مستوى كل بلد أو على مستوى دول الإقليم.
النص الأصلى
https://bit.ly/2X42tyG