حديثنا عن المؤامرة على المجتمعات العربية وكياناتها السياسية وبنيتها الداخلية المتشابكة والتى استمرت هكذا قرونا، هو بالدرجة الأولى وفى الجوهر، حديث عن مهمات إعلامية «خاصة».
فلم تتفكك الكيانات السياسية والاجتماعية العربية، كما حدث فى السنوات الثلاث الأخيرة، وكما حدث قبل ذلك فى العراق، إلا بواسطة الإعلام أولا وبشكل أساسى. لقد كان الإعلام ذو المهمة «الخاصة»، بزخم خطابه وسحره الحداثى وتطور مفهوماته التى أقبل عليها الجميع، أداة ضاربة وذات فعل حاسم على العقول والأذهان. فكيف كان ممكنا الوصول إلى بنية المجتمعات وقطع شبكة تواصلها الداخلى العميق من دون هذه العقول والأذهان التى تم غسلها على نطاق واسع وتهيئتها للانقياد لخطاب الإعلام ذى المهمة المحددة وبرمجتها للتدمير الذاتى بفعل غواية الكلمة وتضليلها وبأثر الصورة كذلك؟
هل سيكتب التاريخ يوما أن المجتمعات العربية المعاصرة هى حقل التجارب الأكبر لاستكشافات فى فضاء السيطرة على العقل البشرى الجمعى، وما يمكن أن يسلط عليه من أفعال الإعلام لأجل الانقياد لسراب الأكاذيب والوعود بالغد الأفضل، ذلك الغد الديمقراطى؟
لم ينجز هذا الإعلام الأسود مهمته فى زج مجتمعات عربية كبرى إلى مصير الفوضى والدماء المسفوكة فى يوم وليلة، فلا شك أنه كان يعمل برؤية زمنية ومرحلية وبمنهجية طويلة المدى، تتواكب مع تطورات الأحداث السياسية.
لقد كان هذا الإعلام الذى تمثل «الجزيرة» رأس حربته قد قطع بنا شوطا كبيرا فى الانقياد والقبول الواثق بمقولاته التى رَسَتْ فى رءوسنا ودخلت شراييننا ووجهت عواطفنا، وذلك حين لم نلحظ اتخاذه فى مرحلة الصفر لغة عقائدية حربية تحول معها مذيعوه إلى محرضين وأساتذة فى تغيير المجتمعات وكذلك ضيوفهم.
هذه الروح النارية التى خلعت عباءة الموضوعية والحياد كانت تنبئ عن بدء مرحلة شن حرب التغيير والتى لم تكن سوى حرب إعلامية ثبت أنها أقوى من الرصاص والدبابات والطائرات، فكل تلك الأسلحة لم تكن من الفعالية فى يد المستعمر لتحطيم المجتمعات العربية مثلما فعل الإعلام.
تبدل لغة الخطاب إلى «الثورية» كان إيذانا بهبوب رياح التغيير من الغرب نفسه. وكم كانت دجنت العقول لكى لا تتساءل حول شرعية المهمة أو الرسالة الحضارية الغربية فى تغيير المجتمعات والنظم السياسية العربية. هل كان ذلك مقبولا لأن «فيس بوك» و«جوجل» و«يوتيوب» كانت وسائط ذلك التغيير المسمى ثورات؟
ولم تنتهِ المهمة الخاصة لهذا الإعلام، بالرغم مما كان سببا له من حقول الموت الجماعى البشع والجراح الأهلية والمجتمعية العميقة والدائمة، والفوضى التى تدور بلدان عربية عدة فى فلكها.