كالعادة، ركزت أغلب التحليلات المتعلقة بعملية «عاصفة الحزم» على كلاسيكيات التضامن والقومية العربية والتوازن السنى ــ الشيعى بالمنطقة. وفى عالم يتكلم لغة المصلحة وتحكمه معايير المكسب والخسارة وأضحى فيه الاقتصاد حجر الزاوية فى العلاقات الدولية، فإن أحد أهم التساؤلات التى يجب أن نمعن فى تحليلها ومحاولة إجابتها هى التداعيات والتأثيرات المحتملة لهذه العملية العسكرية على مستقبل الدعم الخليجى لمصر، خصوصا أن العملية قد تزامنت مع انتهاء المؤتمر الاقتصادى بمصر والإعلان عن حزمة من برامج الاصلاح الاقتصادى والمشروعات الاستثمارية والتى نعول كثيرا فى تنفيذها على الدعم الخليجى ورأس المال العربى.
وفى هذا السياق، لا بد أن نفرق بين الآثار المتوقعة فى المدى القصير والتى قد تكون عرضية مؤقتة وبين الآثار فى المدى الطويل والتى عادة ما تكون أكثر تأثيرا. كذلك، فمن الأهمية بمكان أن نبنى سيناريوهاتنا على فروض دقيقة لمستقبل العمليات العسكرية وتطور أهدافها المعلنة ومداها الزمنى ونطاقها، وكذلك احتمالية تطورها بريا ودخول أطراف جديدة لدائرة الصراع. وفى الوقت الراهن، يمكن الإشارة إلى عدة مؤشرات للتأثيرات المحتملة لعملية عاصفة الحزم على التزامات الدول الخليجية وخصوصا المملكة العربية السعودية بدعم برامج الاصلاح الإقتصادى بمصر. وأركز هنا على السعودية باعتبارها أكبر الداعمين والحليف الخليجى الاستراتيجى الأهم لمصر خلال السنوات الأخيرة، علاوة على كونها الدولة التى أعلنت وتقود العملية العسكرية.
***
فعلى سبيل المثال، أعلنت مؤسسة النقد العربى السعودى، أن المملكة ولأول مرة منذ عام 2009 قد بدأت فى السحب من الاحتياطى الأجنبى وذلك لتغطية العجز المتوقع فى الموازنة بسبب استمرار انخفاض السعر العالمى للنفط، إلى جانب التكلفة المتوقعة للحرب على اليمن والنفقات العسكرية المرتبطة بها. والسؤال هنا: هل يعنى هذا أن الدعم السعودى لمصر سيتأثر بذلك؟ الإجابة قولا واحدا هى أنه لن تكون هناك أية تأثيرات لذلك على دعم المملكة لمصر فى المدى القصير. فلنا أن نعلم أن السعودية لديها رصيد من احتياطيات النقد الأجنبى يقدر بنحو 750 مليار دولار، وبالتالى فإن بضعة مليارات من الدولارات وهى ما أعلنت المملكة التزامها بتقديمه لمصر خلال المؤتمر الاقتصادى الأخير لا تمثل بأى شكل من الأشكال تحديا أو معضلة.
إضافة إلى ذلك؛ فلا بد أن نشير هنا إلى أن سعر البترول نفسه مرشح للارتفاع والصعود فى حالة استمرارية العمليات العسكرية وتطورها (بدون حدوث تأثيرات– لا قدر الله ــ على الأنشطة الإنتاجية النفطية أو غلق مضيق باب المندب)، فمن المتوقع أن تخلق العملية زيادة فى الطلب العالمى على البترول الخليجى نتيجة للتخوف من انقطاع الإمدادات البترولية، وهذا ما قد حدث خلال حرب الخليج حيث وصلت أسعار البترول وقتها إلى نحو 150 دولارا للبرميل. وبالتالى فالارتفاع المتوقع لأسعار النفط من شأنه أن يخفف من الأعباء المالية التى ستتكلفها المملكة فى الإنفاق على التسليح، وكذلك سيمكنها من مواصلة الدعم التمويلى لمصر بلا مشقة. ولكن إذا افترضنا سيناريو أكثر تعقيدا بتطوير العملية لتشمل دخول قوات برية مثلا، أو فى حال إغلاق مضيق باب المندب، فإن هذا سينعكس سلبا وبشدة على الإيرادات النفطية للمملكة ومن ثم سيؤثر على استدامة الدعم الخليجى لمصر، حيث يشكل مضيق باب المندب الممر الرئيس لصادرات النفط الخليجى إلى أسواق العالم بمتوسط 3 ملايين برميل يوميا.
***
وعلى مستوى حركة رؤوس الأموال الخليجية إلى مصر، فإننى أختلف تماما مع التحليلات التى اتخذت من هبوط مؤشرات أغلب الأسواق المالية الخليجية عقب الاعلان عن بدء العملية شاهدا على الانعكاسات السلبية على التوجهات الاستثمارية لرجال الأعمال العرب فى مصر. وذلك لأن هذه الانخفاضات كانت متوقعة بسبب الحساسية المفرطة للأسواق المالية للتغيرات المفاجئة وحالات عدم الاستقرار، ولكن تبقى هذه النوعية من التأثيرات فى نطاق ما أشرت إليه مسبقا بتأثيرات المدى المقصير والتى غالبا ما تكون عرضية وقابلة للتغير. وهذا بالطبع لا يعنى أن الصورة وردية تماما، ولكن من المتوقع أن يبدأ رجال الأعمال العرب بانتهاج سلوك أكثر حذرا فى وضع استراتيجياتهم الاستثمارية. ففى المدى القصير، وتحت ظروف عدم التأكد عادة ما يلجأ المستثمرون إلى «الملاذ الآمن» وهو الذهب والفضة، ولذلك رأينا الارتفاع الكبير الذى شهدته أسعار الذهب والفضة عقب الإعلان عن العمليات العسكرية مباشرة، وبالتالى فقد يعيد المستثمر الخليجى حساباته ويعيد ترتيب أولوياته الاستثمارية فى المنطقة أو يوجهها لأسواق أخرى أكثر استقرارا فى حال تطور العمليات العسكرية.
***
النقطة الأخيرة التى أود الإشارة إليها هى تلك العلاقة بين الحروب الإقليمية والنمو الاقتصادى. فتشير الأدبيات الاقتصادية فى هذا الخصوص، أن هناك جدلا كبيرا بين الاقتصاديين حول أثر الصراعات الإقليمية على النمو الاقتصادى فى الدول المشاركة ودول الجوار الجغرافى، حيث تختلف نتائج الدراسات بين تأثيرات سلبية وإيجابية شديدة التباين. ونظرا لأن المجال لا يتسع هنا لسرد فرضيات هذه الدراسات وحيث إن أغلبها قد أجريت على صراعات فى أقاليم جغرافية كأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وهى بالتالى مختلفة عن نطاقنا العربى ومن ثم يصعب تعميم نتائجها، فإننى هنا أستشهد بكتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل «مبارك من المنصة إلى الميدان». حيث يقول هيكل «كانت مصر تواجه موقفا اقتصاديا فى منتهى الصعوبة فى جزء من الثمانينيات وعلى طول التسعينات»، وقد كاد هذا الوضع أن يصل لمستوى الكارثة، وبالتالى فهى ظروف تتشابه جدا مع واقعنا الحالى، ثم يوضح الكاتب الدور الذى لعبته مشاركة مصر فى حروب الخليج فى «رد الروح إلى الاقتصاد المصرى». فوفقا لأرقام البنك الدولى، حصلت مصر خلال مشاركتها فى حرب الخليج وما بعدها على مساعدات بلغت قيمتها نحو 100 مليار دولار، وشملت إسقاط ديون مستحقة لدول أجنبية، بالإضافة إلى مساعدات خليجية ضخمة.
ولا بد أن يعى القارئ أن هذه ليست نظرة ميكافيلية أو انتهازية، وإنما من طبيعة التحالفات العسكرية أن تتحمل الدول المستفيدة والأقوى اقتصاديا التكلفة، ثم إن مصر ليست فى وضع رفاهية يسمح لها بتحمل تكلفة حرب كهذه. وهذا بالضبط ما حدث عندما شاركت الأردن فى الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية وقام حلف الناتو وأمريكا بتحمل التكلفة. علاوة على ذلك، فإن مشاركة مصر لا يجب اختزالها فقط فى مسألة الدعم الخليجى وإنما يجب أن ندرك أن هناك دافعا اقتصاديا مهما وراءها وهو تأمين وحماية أمنها القومى فى باب المندب، والحفاظ على حركة الملاحة فى قناة السويس. وختاما لهذه النقطة، فإنه من المتوقع أن تساهم مشاركة مصر فى عملية عاصفة الحزم فى ضخ المزيد من المساعدات الخليجية وربما تتنازل بعض الدول عن أجزاء من ودائعها بالبنك المركزى.
وإجمالا، فإن الآثار المحتملة لعملية عاصفة الحزم على الدعم الخليجى لمصر تبقى رهينة لمستقبل العمليات العسكرية وتطور أهدافها ومداها الزمنى واحتمالية تطورها بريا أو دخول أطراف أخرى دائرة الصراع.