قالوا لقد ذهب أهل الدثور بالأجور، أى أصحاب الكثرة فى كل شىء، يفعلون ما نفعله ابتغاء الثواب ويزيدون ثوابا بما يتصدقون، ويحجون ويعتمرون ويجاهدون بأموالهم، إذا سيستأثرون بالدرجات العلى، وكلما كان فقراء المهاجرين يفعلون فضيلة غير مكلفة كالتسبيح والحمد والتهليل فعل الأغنياء مثلهم، ولما اشتكى الفقراء حالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ أكان فقراء المهاجرين حسادا للأغنياء؟ المقارنة قائمة ومازالت حتى يومنا هذا سواء كانت عن حسدٍ أم غبطة، يبقى أثر تلك المقارنة سلبيا أو إيجابيا متوقفا فى الواقع على ما يقرره الأغنياء أنفسهم، ومدى ما يظهرونه من نفور وانعزال أو تكافل ومشاركة اجتماعية.
كان تاريخ بناء بهاء الدين قراقوش لسور مجرى العيون عام 1161 ميلادية فى عهد صلاح الدين الأيوبى تاريخا فاصلا فى التطور العمرانى لمصر العاصمة، فقد كان عمران مصر العاصمة ولمدة خمسة قرون مضت على هذا التاريخ ــ منذ أنشأت الفسطاط عام 641 ميلادية ــ يتمركز فى الجنوب حيث الفسطاط والعسكر والقطائع وفى الشمال حيث القاهرة الفاطمية، وفيما بينهما متناثرات عمرانية جهة الغرب وجهة الشرق فى سفح جبل المقطم والباقى برك ومستنقعات، كانت كل مدينة من المدن الأربعة المكونة لمصر العاصمة خلال القرون الخمسة الأولى تنتمى لفئة عرقية تستطيع تمييزها بسهولة، وكل مدينة مقسمة لأحياء يسكن كل منها قبيلة، زد على ذلك اعتلاء حكم مصر فئة مذهبية شيعية رسخت لمذهبها ليس دينيا فقط بل بشكل اجتماعى مؤثر فأسبغت عادات وتقاليد مذهبها على مستوى الشارع، كانت أعيادهم مناسبات اجتماعية وأفراحهم أحداثا ينتظرها الصغير والكبير، كانوا ما بين الوضوح الإعلامى حين يريدون والغموض الباعث على نسج الأساطير حول حياتهم، وكان الشعب على اختلاف مشاربه ومآربه ينقاد للوضوح مرة وينساق لأساطيره مرات وتخرج من بينها حكمته بتلقائية الأفعال ولطائف الأقوال، ويتعايش من لا حيلة لهم فيتحايلون على أرزاقهم ويطلقون النكات حتى على أنفسهم وأحداث حياتهم.
***
وشيئا فشيئا أخذت الأركان العمرانية الأربعة لمصر العاصمة فى الانصهار الاجتماعى داخل نسق فئوى وطبقى كما لو كان متفقا عليه، نسق اجتماعى كان يقوى فى ذاته فيهضم ما طاب له من عادات الوافدين على الحكم ويلفظ منها ما لم تستسيغه طبائع الناس ومكوّنهم التراثى الذى يتعاظم يوما بعد يوم، ويبدو أن هذا النسق أوجد قواعد عرفية فى التعامل بين الناس، حتى بين أبناء الطبقة الواحدة وإن اختلفت فئاتهم وبين أبناء الفئة الواحدة وإن اختلفت طبقاتهم، ولم نجد منطقة عمرانية واحدة اقتصرت على فئة أو طبقة اجتماعية إلا ولها جذور فى منطقة عمرانية مختلفة فى فئتها أو طبقتها، وبعد امتزاج الخليط المغربى بالآسيوى والمصرى بالرومى، ومع بداية العهد المملوكى استقبلت مصر العاصمة مهاجرين كثر من أهالى العراق والشام بعد الغزو التترى لبلاد الرافدين، كما انتقل الكثير من سكان مصر القديمة إلى شمال السور منذ حريق الفسطاط، حتى صارت مصر العاصمة بأركانها الأربع وأصولها الفئوية وطبقاتها الفقيرة والغنية واحتواء النازح والمهاجر داخل تلك المساحة التى يحدها السور والجبل والنيل هى ساحة الأمان وعقيدة فى الوجدان أنها مصر المحروسة.
تضاعفت أعداد السكان وزادت كثافتهم، فمال الأثرياء منهم إلى الخروج نحو المتسع بانتقاء أماكن يقدرون على تعميرها، ورغم أن هذا الحراك كان ظاهرة عمرانية إلا أنه لم يمثل قرارا منظما بل فرديا تقع مسئوليته على المبادرين به ثم تتوالى الانتقالات ربما فى جوار أو تباعد غير أن جوارهم براح وتباعدهم تناثر، إلى أن اتخذ حكام المماليك من ذلك توجه باتخاذهم مساكن خارج القاهرة وتباروا فى فنون العمارة وتنوعت الأنماط والطرز حسب ما يبغى الحاكم لوضع بصمة تحمل ذكراه أو مناقب حكمه وتضع ريحا من تراث أصله، هذا من أواسط آسيا وذاك رومى وآخر من جزيرة وغيره من جبل، فى حين دأبوا على تطوير وأحيانا تعديل أو تغيير فى عمائر ومنشآت القاهرة الفاطمية التى تشهد انفتاحا لسكنى العامة من الناس، واختفت تقريبا طبقة الأثرياء من القاهرة الفاطمية ومحيطها حيث صارت مركزا اقتصاديا وحرفيا وتجاريا، واتجهوا للسكن غرب القاهرة حول بركة الأزبكية وما بعدها، وكان أثرياء الجنوب ومصر القديمة يتحركون نحو الغرب حتى عمرت الروضة والشمال فعمرت بركة الفيل وصار الطريق على شاطئها حتى القلعة مسارا عليه مساكن الأثرياء وكذلك الناصرية وبركة الفوالة، وبعض من أثرياء الفسطاط فضل الخروج نحو ضاحية حلوان التى أحياها الوالى عبدالعزيز بن مروان زمن وباء الطاعون بالفسطاط وأعادوا الحياة فيها.
لم تكن تلك الامتدادات إلا للقادرين من الأثرياء على الخوض ما بين المستنقع والبركة لتعبيد الطريق وتمهيد الأرض للبناء، ولم ينته عصر المماليك إلا وملأ العمران جميع جهات مصر المحروسة، وفى كل مرحلة من مراحل المد العمرانى غربا لم يعد هناك متنفس سوى أراضى طرح النهر التى تظهر كلما شح فيضانه وانحسر فى مساره إلى جهة الغرب مخلفا مساحات مستنقعية تحتاج من يستثمر فى تحويلها لأرض صالحة للبناء عليها، وظلت الامتدادات تعتمد على رغبات الأثرياء فى النزوح نحو مناطق متسعة قليلة الكثافة مخلفين وراءهم دورا وأماكن يليهم عليها الطبقة المتوسطة بمختلف فئاتها، وظل الحراك العمرانى الاجتماعى على هذا المنوال خلال العهد العثمانى كله والذى بدأ عام 1517م بعد أن كان الطرح السابع لأراضى نهر النيل قد حدث فى 1403م وقد كان شريطا ضيقا غرب بولاق أبوالعلا الحالية وهو تقريبا الحد الحالى للنهر، علما بأن الطرح الثامن والأخير الذى رسم الحدود الحالية حدث عام 1830م مخلفا شريطا يبدأ من شمال كوبرى أبوالعلا الحالى ومتجها شمالا فى شريط غرب شبرا تقع عليه حاليا عمارات أغاخان وكورنيش شبرا.
***
نمت مصر المحروسة خلال العهد العثمانى الذى مكث 281 عاما نموا ذاتيا اتسعت خلاله الرقعة المعمورة بتشييد الأثرياء للدور والعمائر وشيد ولاة الحكم أوقافا للسكن والخدمات بعد أن صارت مصر ولاية، وخلال ما يقرب من ثلاثة قرون كان نتاج الأبنية العامة 140 مسجدا، 30 حماما، 22 مدرسة، تجد كبار التجار زادوا الوكالات التجارية 101 وكالة وزادت الخانات من 11 إلى حوالى 30 خانا، دلالة تعاظم الاقتصاد المحلى ومكانة مصر المحروسة التجارية رغم تفريغها من مهرة الحرفيين والبناة، واتسم ذاك العهد معماريا بطراز بسيط بعد عن البهرجة والتنافس فى فخامة البناء وتشطيبه ولم يختلف العمران فى بساطته عن ذلك من حيث اعتماده على الاحتياج الذى يقابله مد تلقائى تحكمه أعراف البناء والانتقاء الاجتماعى الذى شكلته الظروف السياسية وانصراف الولاة فى إدارتهم عن صالح الشعب وانفصال ولاءاتهم عن قلب المجتمع، مما أثّر فى حركة العمران، وإن كان هناك ارتباط رمزى بين آخر طرح للنيل عام 1830م وإعادة الرؤية العمرانية كما لو كان النيل يهدى مصر آخر قطعة أرض تتوسع عليها ويعلن بدء عهد عمرانى تالٍ يستمر إلى ما بين الحربين العالميتين، لتعمير مناطق مخططة يُجذب إليها الأثرياء لصالح رؤية عمرانية مجددة ومؤسسة لمصر الحديثة.