كنت أجلس على مقهى بوسط البلد مستغرقا فى حديث مع أحد الأصدقاء، حين انتبهت على وقع أقدام متلاحقة، موجات من البشر، نساء ورجال وأطفال تهرول خلفنا فى اتجاه واحد، خمنت أن حدثا جللا وقع: خناقة، ضبط لص فى حالة تلبس، حريق، حادث استدعى أن يهب الناس ــ كما «كانت» عادة المصريين ــ لنجدة ضحاياه.
هرعت مع صديقى نستطلع الأمر، بصعوبة بالغة، شققنا لأنفسنا طريقا وسط الزحام، لكننا رغم المعاناة بقينا على مسافة عشرين مترا من بؤرة الحدث، رجل ذو هيبة يوزع نقودا على الناس، التى كادت أن تطبق على صدره وتدهسه تحت أقدامها، أفلت الرجل بأعجوبة، أطلقته الحشود بعد أن تأكدوا أنه لم يبق معه شيئا يتصدق به.
قبلها بدقائق، كنت أحكى لصديقى هذا المشهد المروع: ثلاث نساء يرتدين السواد، تساندهن ثلاث صبايا وطفلتان، يوسعن كهلا وولده ضربا بالشباشب، وما يلبث الرجل المسكين أن يصد عن ولده ضربة، حتى تلسعه الضربات على جسده كله فى إصرار مدهش.
بدت النسوة فى حالة من الغل والغيظ مريعة،ولم ينسحبن إلا بعد أن سالت دماء الرجل وابنه وأغرقت ملابسهما الرثة، وانتزعن منه الورقة ذات الخمسين جنيها التى أعطاها له عابر بسيارته قبل لحظات، حكيت له أيضا ما جرى فى العام الماضى، حين كنت أحضر رسالة ماجستير لصديقة من دولة عربية شقيقة، وما أن أنهت السيدة المناقشة وحصلت على الدرجة، حتى تحلق حولها العاملون والموظفون فى الكلية، طالبين الحلاوة، لم تبخل السيدة، غير أن ما جادت به، لم يكف الآيادى الممدودة، نشبت مشادات بين الموظفين سرعان ما تطورت إلى تشابك بالأيدى، هربت بسرعة بعد أن مزقنى الخجل إلى شظايا.
وأظن أننا نتذكر فضيحة تناقلتها الصحف فى العام الماضى، حين تجمهر المئات أمام منزل سفير إحدى الدول العربية فى ليلة من ليالى شهر رمضان يطلبون صدقة، وقد أعطى الرجل ما قدره الله عليه للمئات ممن تحلقوا حول منزله، لكن مئات أخرى توافدت بعد أن شاع الخبر، وبقيت مقيمة حول المنزل ترفض أن تغادره، ما اضطره فى النهاية إلى الاستعانة بقوات الأمن كى يتمكن من الخروج من بيته.
الأغنياء مأمورون بالعطف على الفقراء، والتكافل سمة المجتمع الإسلامى، وبنص الحديث الشريف «ما نقص مال من صدقة» كما أن الصدقة تطهر القلوب وتمحى الذنوب، وهى تتم ثواب الصائم مع صلاة القيام.
لكن المشهد بات مقززا ومسيئا، واختلط فيه الحابل بالنابل، الحقيقى بالمزيف، فقد اجتذبت مهنة التسول روادا جددا، بعضهم ربما أغنى ممن يسألونهم الصدقة، وكثيرون منهم يتمتعون بقدرات تمثيلية باهرة، وهؤلاء قد يزجرونك إن لم تعطهم، أو يرمقونك بنظرة نارية تقول بوضوح: روح فى داهية يارب ما توعى ترجع لعيالك.
الأصل أن التسول مذموم، وأنه وصمة عار فى جبين المجتمع، ومشهد غير إنسانى وغير حضارى، فضلا عن أنه يهدر كرامة الفرد، ويضع المتصدق فى اختبار عسير أمام الله لكن من المؤكد أن غياب العدل شوه مشهد الإحسان فى المحروسة.