رصد الشعر العربى تباين موقف المجتمع من التطفيل بين الهجاء والمديح، وهو موقف مربك يجمع بين نقيضين وإن كان كل طرف منهما يقدم حجته على وجاهة رأيه ورجحان نظريته.
فمن يهجو الطفيليين يرى أنهم عالة على المجتمع، وأنهم يحشرون أنفسهم فى مجالس ليست لهم محومين على الطعام فى سماجة تفوق سماجة الذباب، وسرعة تفوق سرعة العقاب، حيث يقول أحد الشعراء:
أسرفُ فى التطفيل من ذباب
على طعام وعلى شرابِ
لو أبصر الرغفان فى السحاب
لطار فى الجو مع العُقابِ
ويصف شاعر آخر أسلوب تعامل الطفيلى مع الرغيف إذا فاز بالحصول عليه فى قصيدة أخرى، وكأنه يكمل الصورة فى النص السابق، حيث يقول:
طفيلى يرى التطفيل دينا
وقرة عينه غشيانُ عُرْسِ
إذا قبضت يداه على رغيفٍ
يُقَسِّم نهبَه بيدٍ وضرسِ
على أن حصول الطفيلى على هذا الرغيف الطائر لم يكن أمرا يسيرا بالمرة، بل كان يتطلب منه ألوانا من الحيلة والدهاء. ومن أبرز هذه الحيل المذكورة فى هجاء الطفيليين أن الطفيلى كان يوهم أصحابه فى الطريق بالانصراف عنهم، لكنه ينقض عليهم لحظة وضع الطعام على المائدة فلا يستطيعون تأخيره حتى ينصرف، حيث يقول الشاعر:
يخالف إخوانه فى الطريقِ
إلى أن تضُمَّهمُ المائده
فبينا كَذاك إذا هم بهِ
مع القومِ كالحيةِ الراصده
يلين الطحين على ضرسهِ
ولو كان من صخرة جامده
ويأكُلُ زاد الورى كُلَّهُ
ولكنها أكلة واحده
والطفيلى يدرك جيدا عدم رغبتهم فى حضوره، لكنه يطور دائما فى خططه وأدواته ويشحذ بوصلته ويحك أنفه ليتمكن من تجاوز الحيل المضادة التى تحاول التأكد من ابتعاده تماما عن المنطقة قبل غرف الطعام، ليكون وصوله فى اللحظة المناسبة التى لا فكاك منها رغم أنف أصحاب البيت، حيث يقول أحد الطفيليين البارعين:
سواء عليهم قدموا أو تأخروا
أجىءُ مع الطباخِ ساعة يَغْرِفُ
وقد كان بعض الطفيليين بلا رحمة، فهم لا يقصدون فقط الولائم الكبرى والأعراس، لكنهم لا يفرقون فى غزواتهم بين حفلات الأغنياء وطعام المستورين الذين يدبرون زادهم لأسرهم بالكاد، فيشبعون هم ويجوع أصحاب الطعام كما يظهر فى هذه الشكوى المرة:
يا أيها السائل عن منزلى نزلت فى الخان على نفسى
يغدو علىَّ الخبزُ من خابزٍ لا يقبل الرهن ولا يُنْسِى
آكل من كيسى ومن كسرتى حتى لقد أوجعنى ضرسى
وفى مقابل هذا الهجاء للطفيليين تجد من يمدحهم ويرحب بهم، حيث يقول الشاعر:
من يذم التطفيل يوما فإنا
قد كَلِفنا بذلة الإخوان
ما حديثٌ عندى ألذ وأشهى
من حديثٍ على شفير الخوانِ
ويتضح للمدقق فى البيتين السابقين أن الشاعر فى حقيقة الأمر يرى أن التطفيل (ذلة) ولكنه كلف ومغرم بها لمصلحة معلنة هى خفة دم الطفيليين وطرافة حديثهم على موائد الطعام، وأخرى غير معلنة تتمثل فى التفاخر والتباهى بفتح موائده للطفيليين إعلانا عن كرمه الزائد.
وقد أصبح هذا الاتجاه مألوفا فى باب التفاخر بالكرم، حيث يقول شاعر آخر على سبيل المثال:
إن الطفيلى له حرمة
زادت على حرمة ندمانى
لأنه جاء ولم أدْعُه
مبتدئا فيه بإحسانِ
مائدتى للناس منصوبة
فليأتها القاصى والدانى
أحبب بمن أنساه لا عن قِلى وهو يجيء ليس ينسانى
وعلى الرغم من وضوح المبالغة فى الأبيات السابقة، لأن الدعوة للمآدب يتعين فيها وجود توافق وتناسب بين المدعوين أكثر مما يتعين فيها وجود الطعام نفسه، فإن هذا الاتجاه فى الفخر قد وجد من يدعو له، حيث يقول شاعر آخر:
قد استزرت عُصبة فأقبلوا وعصبة لم تستزرهم طَفَّلوا
رجوك فى تطفيلهم وأمَّلوا وللرجاء حرمة لا تُجْهَلُ
قابلهم خيرا فأنت الأفضلُ وافعل كما كنت قديما تفعلُ
على أن الطفيلى المسكين نفسه لم يكن يشغله أمر دعوته أو عدم دعوته، أو حفاوة اللقاء أو جفوته، بقدر ما كان يشغله حضور مثل هذه المآدب من أجل الحصول على الطعام، حيث يقول:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا
فإذا نُنْس يَدْعُنا التطفيلُ
ونَقُل:علنا دعينا فغبنا
فأتانا فلم يجدنا الرسولُ
نصرفُ القولَ نحو أجملِ فعلٍ
مثل ما يفعل الودود الوصولُ
وبهذه التخريجة الطريفة يصبح التطفيل كرما من المتطفل على صاحب المائدة بالود والوصال، ويجد الطفيلى قناعا من الفكاهة يستر به ماء وجهه.