فى غضون أقل من شهر، قتلت عصابات إرهابية تُنسب نشاطاتها إلى الاتجاهات الدينية المتشددة، مسنّا فرنسيا فى صحراء النيجر وثمانية أطباء غربيين من جنسيات مختلفة يعملون فى الشأن الإنسانى فى أفغانستان. والحدثان المأساويان مليئان بالدلالات الدينية والأخلاقية والإنسانية والثقافية، ولكننى سأحاول التوقف عند أمرين فى هذه العجالة. الأول، مرتبط بقيمة العمل التطوعى فى المجتمعات العربية أو الإسلامية، والثانى مرتبط بالإدانات الغائبة أو المغيّبة أو الخجولة التى صدرت عن «رموز» العالم الإسلامى إثر هذه الجرائم الوحشية.
المجتمعات العربية تعانى من شحٍّ فى التطوع للعمل الإنسانى المستقل عن الانتماء الدينى. أى أننا نجد عديدا من المسلمين أو المسيحيين يتطوعون للعمل الخيرى أو الصحى أو الرعائى فى إطار مذاهبهم وانتماءاتهم الدينية حصرا وليس فى الإطار الإنسانى الأوسع والذى يرتبط بقضايا من يختلف عنهم دينا ومذهبا وعرقا على الرغم من وجود بعض الاستثناءات الطارئة. وإن جرى الاهتمام بما يحصل فيما وراء الحدود الجغرافية للحيز الذى يعيشون فيه (ولاحظوا أننى تحاشيت استخدام الحدود الوطنية..)، فإن هذا الاهتمام أو التطوع أو التبرع يتم لنصرة من هم ينتمون لنفس الدين أو المذهب فى الحيّز الجغرافى الآخر. لذلك نرى العبارات الدينية ترافق أى تحرك «إنسانى» يعتمد مبدأ التمييز أو الإيثار أو التهميش فيما يتعلق بالانتماءات المختلفة.
بالمقابل، نجد أن مجمل الحراك الإنسانى فى المجتمعات الغربية، ولو أن بعضه حمل إشارات دينية فى عناوينه، فإنه يقتصر على الشق الإنسانى فى ممارساته ولا يسعى إلى التبشير أو نشر عقيدة ما أو حتى إبراز العامل الدينى فى نشاطه، ولنا فى أمثلة مؤسسات الأم تيريزا فى الهند والأخت إيمانويل فى مصر دليل حسّى على هذا الاستنتاج، الذى تابع النشاطات الإنسانية للراهبتين بشكل موضوعى وبعيدا عن التعصّب، يجد أنها لا دينية بامتياز، وشملت الهنود والمصريين من جميع الطوائف والملل. وهذا لا يحدث إلا فيما ندر لدى الجمعيات الإسلامية.
إن الاعتقاد هو أن هذا «التقوقع» الدينى ليس عائدا فقط إلى العامل الإيمانى أو تأثير العمل الوعظى، بل وأيضا، إلى فقدان معنى العمل العام فى دول غابت عنها الديمقراطية لعقود واعتُبرت مجتمعاتها المدنية كتجمعات لعناصر غير منضبطة تزعزع من صلابة مواقف الحكومات «المبدئية» وتساهم فى تنفيذ «مخططات خارجية» فى هذا الإطار. وبقيت الساحة الدينية هى المجال التعبيرى الوحيد للانخراط فى الشأن العام، وتم استغلال ذلك بذكاء وبفاعلية من قبل القائمين على الجمعيات «الإنسانية» الدينية التى تطورت بشكل كبير فى العقود القليلة السابقة.
فى هذا السياق، «يستغرب» أو «يستهجن» البعض أن يقوم مثلا مسنٌّ فرنسى «مسيحى» بتسخير الجزء المتبقى من عمره لفقراء صحراء النيجر من المسلمين، أو أن تتطوع طبيبة شابة إنجليزية «مسيحية» للعناية بالنساء الأفغانيات «المسلمات». وبالتالى، فإن قتلهما بصورة وحشية ومن الوريد إلى الوريد من قبل من يدّعى تنفيذ تعاليم دينٍ إنسانى بامتياز، لا يحرّض ردود فعل شاجبة ما دامت النظرة والتحليل مستندان إلى بعدٍ دينيٍ صرف، وربما تساءل البعض، وهم للأسف كُثر، عن خلفيات وخفايا هذا الاهتمام، وتزدهر نظرية المؤامرة فى هذا المجال، ولا نسمع أى موقف إدانة وشجب واستنكار من وعّاظ الفضائيات وأصحاب الفتاوى، فأوقاتهم مشغولة بالتصدى لأمور الإرضاع وتكفير الأعمال الفنية والدراسات الفكرية، حيث تتراءى لهم شهب الغضب الإلهى تنهمر فوق أرض المسلمين إن وقعوا على اجتهاد فكرى أو فنى، ويرون أن من واجبهم التنبيه إلى عدم محبة الآخر، كما بعض علماء السعودية الذين صدموا لتصوير الآخر المسيحى بشكل إيجابى فى أحد مسلسلاتهم الجريئة. وحيث مئات القتلى من المسلمين يسقطون باسم الإسلام فى العراق وفى أفغانستان، تجد بعض الفضائيات واسعة الانتشار الوقاحة للقول بأن من ارتكب هذه المجازر من الطالبان أو من القاعدة «الذين يوصفون بالإرهاب».
أى أنهم ليسوا إرهابيين بالحقيقة المقدسة التى تتبناها هذه الفضائيات، إنما يصفهم ذاك «الغرب المسيحى الكافر» بالإرهاب. وهذه الرسالة ذات تأثير سلبى كثيف المعانى والدلالات فى عقول بسيطة يتم تشكيلها الفكرى والثقافى من قبل فضائيات الوعظ والفيديو كليب. ففى ظلّ انعدام إدانة قتل المسلمين من قبل عصابات إرهابية طالبانية أو قاعدية، فلماذا ننتظر ظهور وعيٍ دينى يُدين قتل الغربيين المنخرطين فى العمل الإنسانى؟
إن التضامن والتكافل المستندين إلى الانتماء الدينى مطلوبان ومحبّذان، ولكن هذا لا يعنى البتة إغفال التضامن والتكافل اللذين يعتمدان على الإنسانية المجردة من الانتماءات ومن التموضعات. هذا البعد مازال ضعيف الحضور فى ثقافاتنا ويحتاج إلى تضافر جهود مختلف العناصر المؤثّرة والفاعلة، ومنها بالطبع رجال الدين الذين يعتقدون بأهمية القضايا الكبرى الذين يبتعدون عن الاهتمام بصغائر الأمور وتفاصيل الحياة الدنيا. الدور التوعوى والإرشادى يجب أن يتخطى طرق الطعام أو طرق السلام ليتصدى إلى فلسفة الحوار والانفتاح والابتعاد عن العصبية والتعصب فى مجتمعات شديدة التأثر بالعامل الدينى. هناك رجال دين يتصدون لهذا النشاط ولا يقصون رجال الفكر اللادينيين ويكفّرونهم، ولكن المقلق أن هذا النوع من رجال الدين أصبحوا قلّة، وإن وجدوا بكثرة عددية فى حقيقة الأمر، ولكنهم أضحوا أكثرية صامتة تركت الساحة أو تم إقصاؤهم عن الساحة لتبقى ذاخرة بالتعصب وبالإقصاء وبالتكفير وبالتخوين.
ولقد ساهمت السلطات السياسية اللاديمقراطية فى إعطائهم مساحة فعل ورد فعل واسعة فى محاولة لاستقطاب «الشارع» وتحييده عبر عملية التجهيل الممنهجة. وبالمقابل، فإن هذه السلطات لا تألو جهدا فى إقصاء التيار الدينى المتنور أو اللادينى المستقل لأنهما يشكلان خطرا «ماحقا» بأولويات الحفاظ على الاستقرار والديمومة. إن التنبه إلى سوء الحال وتقهقر العقل والفعل هو الأساس فى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ربما.