ثمة مفارقة رافقت وترافق الانتفاضات الشعبية الجارية تستدعى التأمل والكثير من التحوّط والاستباق.
تتلخص المفارقة فى البون الشاسع الذى يرتسم بين العوامل الاجتماعية التى دفعت الى الثورة ــ وعبّر عنها شعار الثورات المركزية «خبز (عيش)، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة انسانية» ــ وبين الوجه السياسى الذى غلب عليها مختصرا إياها بمهمة تغيير الأنظمة السياسية القائمة.
ومع أن العملية الثورية مستمرة وإن تفكيك أنظمة الاستبداد لم يستكمل بعد، إلا أن الداعى إلى إثارة الموضوع هو الوضوح المتزايد للبرامج الاقتصادية والاجتماعية التى تعتمدها الحكومات الإسلامية فى هذه المرحلة الانتقالية وملاحظة عميق الشبه بينها وبين سياسات العهود السابقة من حيث الالتزام بترسيمات المؤسسات المالية الدولية وإملاءاتها النيوليبرالية.
●●●
«التقشف» هى كلمة السر فى تلك البرامج والسياسات، تقابلها عموميات عندما يتعلق الأمر بالمسائل الحيوية الأخرى مثل «دعم الاستثمار المنتج» و«تطوير آليات التشغيل» و«تقليص الفوارق الاجتماعية»، إلخ. ولا غموض فى ان التقشف يعنى خفض عجز الموازنات عن طريق خفض الدعم على خبز الناس وحاجاتهم الأولية أو بزيادة الرسوم والضرائب غير المباشرة عليهم. فأبرز عناوين السياسة الاقتصادية لحكومة عبدالله بنكيران فى المغرب، هو خفض ميزانية صندوق الدعم للمواد الأساسية. فى تونس، قررت حكومة «حركة النهضة» مؤخرا رفع أسعار الوقود بنسبة 7.2٪ بالحجة ذاتها. اما فى السودان، الأحدث عهدا فى حركات الاحتجاج ضد سياسية التقشف وغلاء الأسعار التى اعتمدتها الحكومة الجديدة، يعلن صندوق النقد الدولى دعمه لتلك الاجراءات بالتشديد على أن لا طريقة لسد العجز فى الموازنة إلا بالتقشف.
يدافع حزب «العدالة والتنمية» الإسلامى المغربى عن قراره بالقول إن نصف الأموال المخصصة للدعم تذهب إلى أغنى 20٪ من السكان. وهى حجة غريبة. فعلينا أن نقتنع بأن ما «يخسره» الـ20 ٪ من الأغنياء، غير محتاجين للدعم، سوف يكسبه الـ80٪ من السكان الأكثر احتياجا للدعم. علما بأن الدارج فى مشاريع الحركات الإسلامية فى الحكم تقديم الصدقة والإحسان بديلا عن الدعم الحكومى. اقتضى الأمر أن يرتفع صوت الشباب فى المؤتمر الأخير لحزب «العدالة والتنمية» فى المغرب لتذكير القيادات بأن مكافحة الفساد طريق أنجع بكثير لتقليص الهدر والنهب للموازنة العامة.
●●●
فى مصر، فوجئت الأوساط المالية والحكومية الأمريكية بجذرية الجنوح الليبرالى لدى حزب «الحرية والعدالة». حتى إن مسئولا فى إدارة الرئيس أوباما شبّه الخطاب الاقتصادى للإسلاميين بخطاب الحزب الجمهورى الأمريكى، المعروف بليبراليته المغالية. ومع أن الرئيس مرسى شاء افتتاح عهده اقتصاديا بزيارة إلى الصين حملت قروضا ومشاريع لا يستهان بأهميتها، إلا أن التأشير صينيا قد لا يكون أكثر من مجرد مقدمة للتأشير أمريكيا. تستعد الآن مصر لاستقبال حدثين اقتصاديين أساسيين.
الأول هو التفاوض على قرض من صندوق النقد الدولى بقيمة 4.8 مليار دولار يحظى بدعم حماسى من الإدارة الأمريكية. الصيغة التى يجرى التفاوض عليها جاهزة منذ أيام حكومة الجنزورى، ولا تختلف كثيرا عن الصيغة السابقة اللهم من حيث إن حزب «الحرية والعدالة» عارض القرض حينها. عارضه فى الشكل، لأن التوقيع عليه سوف يتم من قبل حكومة ليست صادرة عن انتخابات نيابية. وسجّل عليه فى المضمون ملاحظات نقدية، أبرزها غموض أبواب الإنفاق داعيا إلى البحث عن سبل أخرى لتعزيز الواردات.
وها هى الحكومة الإسلامية الحالية، غير الصادرة عن انتخابات نيابية، تقبل بالقرض بعد مضاعفة قيمته وتقدم القرض بما هو وسيلة وحيدة لخفض العجز فى الموازنة، وتكريسا للاعتراف الدولى بسلامة وضع الاقتصاد المصرى. ومع أن نقاد القرض ليسوا ينكرون ضرورة الاقتراض، ولا يستخفون بانخفاض الفائدة التى لا تزيد على 1٪ (فائدة؟!) إلا أنهم يتساءلون عن سبب مضاعفة قيمة القرض (من 3.2 مليار دولار)، ويشددون على أن الغموض الذى يكتنف أبواب الانفاق لم يبدد، ويذكرون بأن الدين يتطلب الإيفاء مطالبين بتعزيز الموارد الدولة بعائدات أخرى فى مقدمها اصلاح النظام الضريبى المختل لصالح الأغنياء.
أما الحدث الاقتصادى الثانى، وثيق الارتباط بالأول، فهو إعلان الإدارة الأمريكية إلغاء مليار دولار من ديون مصر للولايات المتحدة. يقدم الإعلان لوصول وفد كبير من 50 من ممثلى الشركات الأمريكية العملاقة إلى القاهرة نهاية هذا الأسبوع، وغرض الزيارة تصفية آخر العقبات أمام الاستمثارات الأمريكية من خلال البحث فى النظام الضريبى وقوانين الإفلاس والعمل فى مصر.
●●●
عند انطلاقة العملية الثورية الجارية، وقف صندوق النقد والبنك الدولى أمام حقيقة أن الثورات تفجرت فى تونس ومصر، وهما البلدان اللذان قدمتهما الوكالتان نموذجا للنجاح الاقتصادى الناتج عن تطبيق الإجراءات النيوليبرالية. وعلامة ذاك النجاح ارتفاع معدلات النمو الاقتصادى (6.5٪ و4.5٪ على التوالى للبلدين). على امتداد ربع قرن، تبيّن أن هذا المقياس عدا عن أنه لا يمنع الجنوح نحو ترييع الاقتصاديات، ولا هو يوقف الهدر والفساد، وليس ينطوى على «اليد الخفية» التى يبشّر بها الليبراليون، قديمهم والجديد، التى تضمن «تسريب» خيرات النمو بين الطبقات من أعلى إلى أسفل، ولم يساعد كثيرا فى «وأد الفقر». لم يكن هذا ما آثار اهتمام البنك الدولى وصندوق النقد حينها. لفتت الاهتمام مسألة البطالة، وبطالة الشباب خصوصا، التى ظهرت بحدة إلى السطح بما هى عامل رئيسى من عوامل تفجّر الانتفاضات. فأصدر مديرا الصندوق والبنك فى وقت واحد ما يشبه النقد الذاتى فاعترفا بأن نمو الاقتصادى ليس يؤدى إلى خلق فرص عمل.
كان ذلك زمن يجرى فيه البحث عن البطالة والفقر. أما الآن، زمن الرأسمالية المؤمنة، فالشعار هو «البزنس والنمو» حسب تعبير نائب وزير الاقتصاد الأمريكى الذى يترأس الوفد العتيد. وهو «النمو» نفسه الذى يزيد الفقر ويخلق فرص عمل باعتراف الوكالتين، وقد بلغنا نقدهما الذاتى.
●●●
فى مناسبات سابقة، قدمت الأنظمة العربية تنازلات سياسية جزئية ردا على انتفاضات اجتماعية ضد البطالة والفقر: المنابر السياسية فى مصر فى أواخر السبعينيات، تفكيك نظام الحزب الأوحد فى الجزائر فى أواخر الثمانينيات، دستور جديد فى المغرب سمح بارتقاء رئيس حزب المعارضة اليسارى الرئيسى إلى رئاسة الوزارة؛ انتخابات نيابية أرحب وتشريع الأحزاب فى الأردن، فى التسعينيات، إلخ.
فى هذه الموجة الثالثة من الانتفاضات من اجل الخبز والحرية والحقوق الاجتماعية، نلقى أن المطالبات أعلى طموحا، والصراعات أكثر حدة وعنفا، والمشاركات الجماهيرية والشعبية أوسع مدى وعمقا، والتضحيات لم تعد تقاس بأى مقياس. فإذا كان الإصلاح السياسى المنقوص الذى تقدمه الحكومات الانتقالية الإسلامية، بما فيه من نكوص سياسى وقانونى عما كان فى عهود سابقة، سوف يقترن بسياسات اقتصادية تكرر سياسات حكومات الاستبداد السابقة، أو تسعى لأن تتجاوزها فى ليبراليتها، فإن الاحتقان الاجتماعى الذى تستدعيه تلك السياسات سوف يهدد بتلغيم الصراعات الجارية على طبيعة الأنظمة السياسية بعوامل تفجّر إضافية بدلا من أن يؤمّن التواصل والتكامل بين التغيير السياسى والتغيير الاقتصادى الاجتماعى.
الملاحظة موجهة أيضا خصوصا لحفز قوى الثورة وشبابها خصوصا للحث على إنتاج بدائل تدرج السياسى والوطنى والقومى والديمقراطى والاجتماعى فى رؤية مندمجة وخلاقة لحياة جديدة تليق بالأحداث التاريخية التى نشهد وبعظمة الشعوب التى تصنعها.