أكتوبر 1978:
مضت إحدى عشرة سنة على صدور قرار مجلس الأمن 242 وإسرائيل تماطل فى التنفيذ بحجة أن القرار لا ينفذ تلقائيا، فما هو إلا جدول أعمال يتضمن مبادئ ونقاط يجب التفاوض على أسلوب تطبيقها. وكانت الأمم المتحدة قد عينت الدبلوماسى السويدى «جونار يارنج» لإجراء الاتصالات بين الطرفين بغية التوصل إلى تنفيذ القرار. وقد ظلت إسرائيل تماطل «يارنج» ذى الأعصاب السويدية الجليدية حتى أخرجته عن هذا الإطار الهادئ، وقام فى فبراير 1972 بتوجيه أسئلة كتابية مباشرة وقاطعة وطلب الرد عليها كتابة وكان من بينها سؤال موجه لإسرائيل عما إذا كانت تقبل بالانسحاب من سيناء إلى الحدود الدولية أى حدود 5 يونيو 1967، مما اضطر إسرائيل أن تفصح عن موقفها الحقيقى وهو أنه لا انسحاب إلى خطوط ما قبل الحرب فهى ــ فى عرفها ــ خطوط لا تصلح لتكون حدود آمنة يمكن الدفاع عنها كما يتطلب قرار مجلس الأمن، وعندما تلقى «يارنج» هذا الرد قام بإنهاء مهمته وقدم تقريرا مفصلا شارحا الأسباب.
•••
أقول ذلك للأجيال الجديدة لكى تعرف مدى الإنجاز الرائع الذى حققته قواتنا المسلحة فى أكتوبر 1973 باقتحام وتحطيم خط بارليف مما أحدث تغييرا جذريا فى ميزان القوى، الأمر الذى جعل التفاوض ممكنا.
وبدأ التفاوض فى قصر بلير هاوس بواشنجتون فى أكتوبر 1978 وكنت ضمن أعضاء الوفد المصرى، وبعد مرور خمسين يوما من التفاوض تم التوصل إلى نص متفق عليه عدا مادة واحدة أصبحت حجر عثرة غير قابل للتحريك حيث قدمت إسرائيل نصا ــ مأخوذ من ميثاق الأمم المتحدة يضع الالتزامات بموجب معاهدة السلام فى مرتبة أعلى من أى التزامات أخرى بحيث إذا حدث تعارض بين التزامات مصر بموجب معاهدة السلام والتزاماتها بموجب أى اتفاقيات أخرى، فإن التزاماتها بموجب معاهدة السلام هى التى تسرى، وهذا النص لا يوجد إلا فى ميثاق الأمم المتحدة التى قبلت الدول إعطاءه مركزا أعلى من سائر المعاهدات.
كان معنى التزام مصر بهذا النص ــ ببساطة ــ أن تعلن انسحابها من اتفاقية الدفاع العربى المشترك وأى التزامات دفاعية عربية أخرى على المستوى الثنائى.
سارعت الولايات المتحدة بتقديم نص لمادة ــ عرفت فيما بعد باسم المادة السادسة ــ بعنوان «أولوية الالتزامات» يقضى بأن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة سوف تسود على التعهدات الدولية السابقة التى تتعارض معها وكذلك على أى نصوص فى القانون الداخلى تتنافى معها.
وكان تمسك إسرائيل شديدا بهذه المادة التى هى من صياغتها، حيث كان الوفد الإسرائيلى يرى أنه بدونها تصبح كل بنود المعاهدة غير ذات موضوع وأن مصر برفضها قبول هذه المادة إنما تعلن أنها ستحارب إسرائيل مرة أخرى فكيف يمكن أن تكون هذه الاتفاقية معاهدة سلام.
وكان رد مصر منطقيا، فاتفاق الدفاع العربى المشترك هو اتفاق دفاعى وليس موجها ضد أحد وعليه فإذا لم يحدث عدوان على دولة عربية فلا نحتاج إلى تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك، ثم ماذا عن حق الدفاع الشرعى عن النفس الذى تكلفه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، هل تريد إسرائيل أن تنبذ مصر أيضا حقها فى الدفاع عن النفس؟
وبعد جدال طويل توقفت عجلة التفاوض عن الدوران، وانتقلت الاتصالات إلى العواصم. فالاختيار صعب بل يكاد يكون مستحيلا لأنه ببساطة يطالب مصر بأن تختار بين العرب وإسرائيل!
•••
عاد الوفد المصرى إلى القاهرة ومعه مشروع المعاهدة التى تم التوصل إليها بما فيها المواد الخلافية موضوعة بين الأقواس، وفى محاولة من إسرائيل للسيطرة على زمام المبادرة الإعلامية أعلنت أنها تقبل مشروع المعاهدة كما أعد فى واشنجتون بدون أية شروط سوى قبول مصر له.. ولم يكن بإمكان مصر قبول صياغة المادة السادسة التى يتضمنها هذا المشروع بأية حال من الأحوال.. وبذلك وصلت الأمور إلى طريق مسدود إلى أن قام الرئيس الأمريكى جيمى كارتر بمهمته الماكوكية بين الطرفين والتى تم التوصل خلالها إلى إعداد تفسير للمادة السادسة يرفق بالمعاهدة.. وينص على اتفاق الطرفين على أنه لا يوجد فى هذه المعاهدة ما يشير إلى أنها تسود على أى اتفاقات أو معاهدات أخرى، أو أن أى اتفاقات أو معاهدات أخرى لها السيادة عليها، وأدرج هذا التفسير ضمن ملاحق المعاهدة (9)، وهكذا تمت إزالة العقبة الأخيرة أمام التوقيع على المعاهدة.
جدير بالذكر أنه عندما استحكم الخلاف بين مصر وإسرائيل بشأن المادة السادسة تقدمت الولايات المتحدة برأى قانونى بشأن هذه المادة مفاده «أنه لمصر الحق فى مساعدة أى دولة عربية عسكريا إذا ما تعرضت لهجوم إسرائيل مسلح» (يلاحظ أنها لم تستخدم كلمة عدوان نظرا لأن تعريف العدوان الذى أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة يتضمن اعتبار احتلال الأراضى بالقوة أو ضمها نوع من أنواع العدوان).
بينما لا يكون لمصر هذا الحق إذا ما حدث الهجوم من جانب دولة عربية على إسرائيل.
وقد كان رد فعل إسرائيل عنيفا على هذه المقترحات الأمريكية إذ اعتبرته يلغى المعاهدة من أساسها ويسلبها روحها واعتبرته تقنينا للحرب بإضفاء صفة المشروعية عليها فى معاهدة سلام.
وقد تعقد الموقف أكثر من ذلك بقيام إسرائيل بتوجيه أسئلة رسمية مكتوبة إلى الولايات المتحدة كان من بينها سؤالا عما إذا كان استمرار احتلال إسرائيل للأراضى العربية يعد هجوما مسلحا بمفهوم الرأى القانونى الأمريكى يبيح لمصر الحق فى التدخل العسكرى طبقا لاتفاق الدفاع المشترك، وكان الرد الأمريكى أنه بعد صدور القرار رقم 242 فإن الاحتلال الإسرائيل لم يعد عدوانا!! وكان السؤال الثانى فى قائمة الأسئلة الإسرائيلية الموجهة لأمريكا يتعلق بحق الدفاع الشرعى عن النفس وهل تدخل فى نطاقه العمليات العسكرية التى تقوم بها إسرائيل ردا على عمليات فدائية إلا أن الولايات المتحدة أجابت بأنها لا تستطيع أن تعطى ردا على هذا السؤال يكون شاملا لكل أنواع الحالات التى يحق أو لا يحق لإسرائيل التدخل العسكرى بموجبها وكانت أمريكا تحاول باستماته إقناع مصر بقبول الرأى القانونى الأمريكى، وذكرت أن هذا الرأى تضمن لأول مرة موافقة صريحة من أمريكا لعمل عسكرى تقوم به مصر ضد إسرائيل إلا أن مصر لم يكن بوسعها قبول الرأى القانونى بعد الردود التى وجهتها أمريكا لإسرائيل ردا على أسئلتها والتى يمكن تفسيرها بأن أمريكا تعتبر استمرار احتلال الأراضى أمرا مشروعا.
وقد دامت أزمة المادة السادسة عدة شهور إلى أن تم التوصل إلى الصيغة الواردة فى المحضر المتفق عليه، وفى اعتقادى أن الرأى القانونى الأمريكى الذى قدم رسميا للأطراف سيفيد فى تفسير المادة السادسة بالرغم من رفض مصر له ورفض إسرائيل له فقد انتهى بوضوح إلى حق مصر فى مساعدة أى دولة عربية عسكريا إذا ما تعرضت لهجوم إسرائيلى مسلح تنفيذا لاتفاقية الدفاع العربى المشترك.
•••
أكتوبر 2014:
أما الآن.. فتبدو المسافة بعيدة وكأنها ألف عام تفصلنا عن ذلك الزمن، أربعين سنة من السلام مع إسرائيل. صحيح أنه سلام بارد ولكنه سلام لم تطلق فيه رصاصة واحدة على الجبهة المصرية، وعلى الجبهات العربية الأخرى، فهناك سلام أيضا بين الجيوش الرسمية. ولكن الظاهرة التى تحتل المساحة الأكبر من الفعل ورد الفعل هى ظهور الجماعات المسلحة غير النظامية والجماعات الإرهابية على اختلاف تنوعاتها والتى أصبحت الآن عنصرا من العناصر التى يتعامل معها القانون الدولى والتى يطلق عليها كيانات اللا دولة Non State Entities وأصبح بعضها يسيطر على أراضى ويتفاوض مع الدولة ويعقد تفاهمات وتهدءات وهدنة.. ولعل هذا هو أسوأ نتاج حالة اللا حرب واللا سلم واللا حل التى تعامل بها المجتمع الدولى مع القضية المركزية للعالم العربى والإسلامى وهى قضية فلسطين.