هيأت ذهنى بعدد من المقترحات المعمارية لأعرضها على الشخص الذى طلب تصميما لبناء أرضه عمارة سكنية، لكنه بادرنى بالشكر والاعتذار عن إزعاجى بهذا الأمر، مع أنه كان يحرص على سرعة البدء فى التصميم، وبدا لى ذلك تهربا تشككت على إثره فى نية البناء، وهنا أخبرنى بأنه التقى «مقاول المنطقة» وأنه سييسر له أمورا كثيرة وستسير جميع الإجراءات بشكل بسيط وسهل دون عناء السعى وتضييع الوقت الذى يفرق كثيرا بين أسعار اليوم وغدا، إضافة إلى حسبة المكاسب التى عرضها عليه والتى تبدو أكبر ضخامة وأكثر ضمانا من سبل كثيرة سمع بها.
المقاول ينفذ واجهاته الشهير بها، فأينما تجولت فى المنطقة ستعرف فورا العمارات التى قام ببنائها، كما أن التقسيم الداخلى متنوع والمسطحات مختلفة والنموذج واحد يقوم بتطبيقه على أية قطعة أرض، كيف؟! وقطع الأراضى غير متشابهة كما أن هناك مسافات ردود تفرضها الاشتراطات؛ هو لا يهتم، فهو يبرز عن الردود بحيث ينفذ نموذجه، ويبنى بسرعة ويهتم بالمدخل فالمدخل كما يقال «بياع»، إذا لن تحتاج تصميما معماريا وإنشائيا وإجراءات الترخيص؟، الواقع أن صاحب الأرض يدخل شريكا بها فى المشروع والمقاول يقوم بالبناء مقابل نسب بينهما تعود لقيمة الأرض فى المنطقة، وتضمن مقابل التكاليف وأرباح المقاول، الذى يأخذ فى اعتباره مسبقا التجاوز فى عدد من الأدوار يعلى بها الربح، ويلجأ لأحدهم لينهى له إجراءات الترخيص، فرسومات الرخصة شىء والرسومات التنفيذية شىء آخر، «وهو ده اللى ماشى».
•••
لنقف عند تلك الجملة الأخيرة وقفة مراجعة ومحاسبة، هذه الجملة التى تنطوى على إجراءات صارت عرفا سائدا سائرا «ماشى» فى كثير من مناطق المحروسة بلطف الله فقط، ولكن ما هى أبعاده؟، البداية بأن التربة «إن شاء الله زى الفل»، المنطقة كلها تستخدم نموذج تقرير تربة ولا خوف، فالمقاول يقوم بعمل أساسات بطريقة «اللبشة» تستطيع أن تقيم عليها كوبرى، ومن كلامه: «إن الخطر يأتى عندما يصمم لك المهندس الإنشائى قواعد منفصلة وبينها ميد وشدادات وخلافه وتصبح إحدى أو بعض القواعد عرضة للهبوط، ولكن اللبشة توفر إجراءات اختبارات التربة وتقريرها وما بعده»، ثم يرتفع البناء بأعمدة تحمل أسقفا ذات بلاطات بدون كمرات «Flat Slab»، هذه أسرع فى التنفيذ، بمعنى أن الدور فى العمارة ينتهى بصب الأعمدة ثم شد السقف مع بقاء خشب الأعمدة ثم صب السقف لتنتهى خراسانات الدور الواحد خلال أسبوعين على الأكثر، ليتم بناء عمارة من ثمانية أدوار خلال خمسة أو ستة أشهر على الأكثر.
هذه اللبشة مكلفة مقارنة بالقواعد المنفصلة ولكن يمكن بها تجاوز اختبارات التربة من وجهة نظر المقاول الذى يهتم بتدشين حديد فيها يكفى قواعد كوبرى، هكذا معروف عنه فهو رجل يخاف على سمعته، ولكن أليس فى ذلك ارتفاع فى تكاليف البناء؟، «وماله.. كله محسوب فى التكلفة»، والأعمدة يلاحظ أن قطرها «ما شاء الله» كبير والسقف سمك 30 سنتيمتر، نعم فهو رجل يخاف الله، هكذا هى شهرته وأعماله التى يقوم بها، ولكن ذلك كله يزيد من تكاليف البناء!، «وماله.. كله محسوب فى التكلفة»، المهم يكون المدخل رخام والمكان المحجوز للمصعد «بئر الأسانسير» فى مقابل الداخل إلى العمارة، أليس كل ذلك يعلى طبقا للدراسات من تكلفة البناء الذى يسلم للشارى نصف تشطيب بنسبة ما بين 30 إلى 40%، «وماله» ولكن هذه المرة لم يقل «كله محسوب فى التكلفة» بل قالها «ما هو كله على قفا الزبون، والناس بتشترى»، والإجراءات.. والتراخيص.. والرقابة.. أليس هناك ضوابط لهذه الممارسات وضمانها؟.
•••
لقد استبدل هذا المقاول القانون والإجراءات بنظامه الذى ضمن له تجاوزهما، ذلك الاستعراض الواقعى المستمر ذكرنى بحادثة ميل عمارة الأزاريطة بالإسكندرية، تلك العمارة التى ثبتت قوة بنائها وعظيم ترابط أجزائها، ومالت حين لم تستطع التربة تحملها، لقد وضع المقاول نظامه المحكم البناء ليرسخ فسادا ضعفت التربة على تحمله، الواقع أن المقاول ومن شاركه ومن استفاد من ذلك الذى «هو ده اللى ماشى»، لم يكن يرسخ لفساد يتجاوز به تحمل التربة فقط بل وتحمل الإجراءات والقوانين الضابطة والمعايير والمعدلات الفنية الكفيلة بضبط الجودة والتكلفة، والأدهى أن تلك الممارسات تجرى حتى فى المناطق التى يتجاوز فيها شركاء البناء القوانين ويحولون مواقف السيارات «الجراجات» إلى شقق دوبلكس أسفل العمائر «تعرف بالفيلات!» بحدائق يسقيها أصحابها بمياه تسرى فى التربة لتفعل بها ما بين الهبوط إلى الانتفاش إن كانت تحوى طفلة، لتصير العمارة بنسبة ما أو بعيوب إنشائية أخرى إلى وضع بال إنشائيا.
إن كلمة تربة يحسب معناها ليس فقط على التربة الطبيعية، بل على التربة المجازية الدالة على طبيعة التعامل وما يغرزه كل هؤلاء من ممارسات فاسدة وما يرسخه آخرون بصمتهم على تجاوز تلك الممارسات، إن لم يجد هؤلاء جميعا تربة خصبة لتلقى تقارير تربة «مضروبة» وسماسرة تخليص الرخص، ومشاكل مناخ العمل الذى نقدر للعاملين فيه ما يواجهونه من صعوبة ممارسة جادة لضبط تلك الأعمال، وما ينتج عن ذلك من طبيعة عمل تندرج تحت «ما هو ده اللى ماشى»، حتى صار انضباط الأمور وقف على تدخل الجهات الرقابية حين تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن ويتقدم أحد الأطرف ببلاغ ليخرق ذلك العرف وتلك المنظومة ويتيح فرصة تدخل الجهات الرقابية التى أصبح على عاتقها إقرار ما كان يجب أن يكون نظاما قانونيا معمولا به، بدلا من المتابعة النظامية والإجرائية من جهات الاختصاص وأن يكون تدخلها استثناء عند وقوع الخطأ فى دوائر المتابعة قبل أن يصير جريمة مادية واقعة أمام العيان.
لقد تشارك البعض فى إنجاز بناء قوى يرسخ للفساد مستغلين تربة ضعيفة غير متجانسة متضاربة فى قوانينها، غير متماسكة فى سلوكها، مخترقة بعروق من الطفلة متى ارتوت «بالمياه» انتفشت وزاد فسادها، ذلك البناء ارتفع بالطمع والاستغلال وتلك التربة فسدت بالجهل أو قلة الوعى والاستهتار، ومسئولية العلاج جماعية، فقط مطلوب منع الطامعين برفض استغلالهم وعدم السماح بارتفاع بنائهم، وتقوية التربة بتقوية النظام الإدارى والالتزام بالقوانين واللوائح والإجراءات ورفع الوعى المجتمعى بالامتناع عن الممارسات السلبية وإعادة النظر فى خطط سير الإجراءات وتطوير المنظومة الإدارية لتتناسب مع ثقل المسئولية وحجم مجال التعامل، ولنعلم أن بناء الفاسد مائل ولو كان متينا وتربة الضعيف لا تسقى بالماء بل تسقى بالمبادئ.