نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب شوقى بزيع.. نعرض منه ما يلى.
يبدو الشعراء والفنانون فى كثير من الزوايا كائنات قلقة ومتمردة على التقاليد والأعراف الموروثة، ومتبرمة بكل ما هو ناجز ومكرّس ومفروض على البشر.
فالهويات الحقيقية، وفق هؤلاء ليست معطى ناجزا وقبليا على الإطلاق، بل هى تلك التى تُصنع لبنة لبنة بواسطة الأفراد الخلاقين والساعين أبدا إلى التجّدد.
وإذا كان الشعر والإبداع بشكل عام نوعا من إعادة التسمية للعالم والأشياء والموجودات، فإن كثيرا من الشعراء والمبدعين يرتأون تغيير الأسماء الممنوحة لهم دون إرادتهم. فالأسماء التى نحملها فى المهد ليست سوى الحلقة الأولى من سلاسل القيود والعبوديات التى تثقل كواهلنا على امتداد الحياة.
هكذا يصبح التبرم بالأسماء الممنوحة للبشر عند الولادة نوعا من التعبير الرمزى عن رغبة الكتاب والمبدعين فى استيلاد أنفسهم من الصفر التكوينى، دون أن يدينوا لأحد بشيء مما يتوقون إلى تحقيقه.
على أن التاريخ العربى يُظهر لنا بوضوح أن العرب الأقدمين لم يتركوا للشعراء فى أحيان كثيرة فرصة المبادرة إلى تبديل أسمائهم، بل يتولون المهمة بأنفسهم، مطلقين على هؤلاء ألقابا مستنبطة من سلوكياتهم ومن مظهرهم الخارجى، بحيث تجبّ هذه الألقاب الاسم الأصلى.
فالعرب فى الجاهلية لقّبوا عدى بن ربيعة بالمهلهل، لأنه أول من هلهل الشعر، بمعنى رقّقه وهذّبه. وقيل لُقب بذلك لأنه كان يلبس ثيابا مهلهلة. وفى رواية أخرى أن اسمه الأصلى هو سالم وليس عديّا، وأن أخاه كليب أطلق عليه لقب الزير لأنه كان زيرا للنساء، فعرفته السير الشعبية باسم الزير سالم.
وحمل جرول بن أوس لقب الحطيئة، لقصر قامته، كما اشتُهر غياث بن غوث التغلبى بالأخطل، بعد أن لاحظ المحيطون به خطلا فى لسانه غير قابل للتصحيح.
ولم تأخذ ظاهرة الأسماء البديلة عند الشعراء والكتاب طريقها إلى الاضمحلال فى القرنين الماضيين. وهى ظاهرة لم تنحصر فى العرب وحدهم، بل تجد نظائر لها عند سائر الشعوب. لكن الذى ميز الغربيين عن سواهم، هو أنهم لم ينتظروا من جهتهم من يخلع عنهم أسماءهم الأصلية، ليستبد بها ألقابا متصلة بأخلاقهم أو انحرافاتهم السلوكية، بل بادروا بأنفسهم إلى اختيار أسماء بديلة.
وغالبا ما يكون هذا التبديل ناجما عن عدم استساغة أسمائهم الأصلية لطولها وصعوبة نطقها. وهو ما يبدو واضحا فى حالة الشاعر التشيلى بابلو نيرودا الذى آثر أن يختار اسمه الأدبى بنفسه، فرارا من اسمه الأصلى المعقد والفضفاض: ريكاردو أليسير نفتالى رييس باسولانو.
وإذا كان ثمة ألقاب ونعوت أُطلقت على الشعراء زمن النهضة الأولى لأسباب مختلفة، كأن ينعت البارودى بشاعر السيف والقلم وخليل مطران بشاعر القطرين وحافظ إبراهيم بشاعر النيل، فإن هذه الألقاب لم تحل محل الأسماء الأصلية ولم تنافسها فى الشهرة والانتشار.
بعد ذلك تُرك للشعراء وحدهم أن يسبغوا على أنفسهم ما يرتأونه من الأسماء. وحيث بدا بعض الشعراء مصرّين على الاحتفاظ بالأدوار السياسية والإعلامية التى سبق أن لعبوها فى الماضى، فإن الأسماء الجديدة التى اختاروها كانت ترجمة لقناعاتهم السياسية. فاختيار الشاعر اللبنانى بشارة الخورى لنفسه اسم الأخطل الصغير، لم يتم لأسباب إبداعية بحتة، بل لأن الخورى، وهو المسيحى المدافع عن قضايا العرب، أراد أن يتماهى مع جده الأول الذى لم تمنعه نصرانيته من الدفاع عن الأمويين العرب، بصرف النظر عن الاختلاف فى الدين.
وفى السياق نفسه، حمل شاعر الأردن الشهير مصطفى وهبى التل لقب «عرار»، ليس فقط تيمنا بأحد الشعراء الصعاليك فى العصر الأموى، بل لأن شعره يلتصق بجذوره المحلية، ويتسم بطيب الرائحة، مثل تلك النبتة المنتشرة فى صحارى العرب.
وإذا كان من المتعذر أن نضع ثبتا شاملا بكل الشعراء والكتاب العرب الذين اختاروا لأنفسهم أو اختيرت لهم أسماء بديلة طغت على الأسماء الأصلية وطمستها، فإن من الواضح تماما أن معظم شعراء الحداثة المؤسسين قد عزفوا عن اختيار أسماء بديلة لهم، بدءا من السياب والملائكة والبياتى والحيدرى وعبدالصبور، وصولا إلى الفيتورى وحجازى والماغوط وأنسى الحاج ودرويش وغيرهم.
ومع أن البعد التموزى كان أحد الأبعاد الرئيسية للحداثة الشعرية العربية ذات المنحى «القيامي»، فإن فكرة الموت والانبعاث، أو الجدب والخصب التى شهدت ترجمتها الفعلية فى الأدبين المشرقى والمصرى على وجه الخصوص، حيث تقاطعت الأسطورة مع الدين فى غير زاوية ومكان، فإن أيا من شعراء الحداثة المصريين لم يخطر له أن يستبدل اسمه بواحد من الآلهة الكثر المنتشرين على ضفاف النيل. فيما أن الرواية المصرية، خصوصا عند نجيب محفوظ هى التى قامت بالمهمة.
أما فى المشرق، فإن الأبعاد التموزية للحداثة لم تنعكس فى النصوص وحدها، بل فى أسماء المبدعين أنفسهم، حيث عمد الشاعر والكاتب اللبنانى فؤاد سليمان إلى توقيع كتاباته باسم «تموز»، فيما كان الشاعر السورى على أحمد سعيد يستبدل باسمه الأصلى اسم أدونيس. على أن الاسم وحده لا يكفى بأى حال لبلوغ الاسم منتهى غاياته، أو لجعل الأسطورة الأصلية رافعة للشهرة والمجد.
أخيرا، تجدر الإشارة إلى غياب ظاهرة الأسماء البديلة عن المشهد الشعرى العربى فى عقوده الأخيرة. ذلك أن الشعر لم يعد يتغذى من مصادر رومانسية وغيبية وفوق أرضية، إنما من حواضر الحياة القريبة وفُتاتها اليومى.
لقد سقطت فكرة الشاعر النبى والشاعر الفحل والشاعر الأسطورة، و«لم يعد للشعراء من يكاتبهم» حتى على عناوينهم الأولى وأسمائهم الأصلية!
النص الأصلي