إنقاذ الدول المأزومة.. بتمزيقها - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إنقاذ الدول المأزومة.. بتمزيقها

نشر فى : الخميس 6 ديسمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 6 ديسمبر 2012 - 9:47 ص

إن أردتم إنقاذ دولة.. مزقوها..

 

 

نشرت صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام قليلة مقالا بعنوان «لإنقاذ الكونغو، أتركوه ينفرط».  لم يفاجئنى العنوان فقد رأيت مثله بالمعنى نفسه يزين مقالات أمريكية وأوروبية عديدة فى السنوات والشهور الأخيرة تدعو إلى التدخل لتشجيع قوى الانفصال فى دول كثيرة على إعلان استقلال أقاليمهم، ولدى كتاب هذه المقالات مبررات وحجج شتى.

 

  الحجج الذائعة فى الدعوة لانفراط الكونغو هى نفسها الحجج التى تتردد عند مناقشة الأحوال فى معظم دول أفريقيا، وأهمها الحجة القائلة بأن تقسيم الاستعمار لافريقيا لم يراع التنوعات القبلية والدينية والتاريخية، ولم يراع الحدود الطبيعية لكل قبيلة على حدة ولم يلتفت إلى واقع أن الحدود القبلية فى أفريقيا تتغير مع مواسم الجفاف والمطر.

 

   كانت هذه الحجة معروفة ولكن مرفوض مناقشتها سياسيا وإقليميا ودوليا خوفا من انفراط القارة الأفريقية وسقوط نظامها الإقليمى فى فوضى هائلة. كان القبول بالوضع القائم، أى بوضع «الدولة» المفروضة فرضا على شعوبها، شرطا من شروط التوازن الدولى خلال الحرب الباردة، واستفادت منه الدول الأوروبية التى استعمرت أفريقيا لعصور طويلة واستمرت تهيمن على مواردها الطبيعية بعد الاستقلال.

 

   سمعنا عبارة انفصال جنوب السودان فى الوقت الذى كان السودانيون بقيادة الحزب الاتحادى يستعدون للاحتفال بالاستقلال. وبالفعل بدأت الحرب الأهلية بين حكومة السودان فى الخرطوم وحركات الانفصال فى الجنوب فور إعلان الاستقلال. حال دون تحقيق الانفراط وقتها المجتمع الدولى بقيادة أمريكا والاتحاد السوفييتى والدول الأفريقية التى بدأت تستقل واحدة بعد الأخرى. ومما لاشك فيه أن مصر لعبت فى ذلك الوقت دورا كبيرا فى منع التقسيم لمصلحة خاصة بها.

 

•••

 كانت الكونغو الدولة الأفريقية الأخرى التى حظيت وحدتها الإقليمية باهتمام فائق من المجتمع الدولى، فهى الأغنى على الإطلاق باعتبار أنها تحوز على أكثر من 30٪ من احتياطى الألماس فى العالم ورصيد هائل من الكبريت والنحاس والذهب، وتنتج 70٪ من الكولتان المادة الحيوية فى معظم الصناعات الإلكترونية، ورغم هذه الثروة تأتى الكونغو فى أدنى قائمة الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية بسبب تدهور أحوالها السياسية والاجتماعية والحروب الأهلية التى تمزقها. وعلى كل حال لم تعرف الكونغو الاستقرار منذ أن أعلن المكتشف الشهير هنرى مورتون ستانلى ضمها إلى إمبراطورية ليوبولد الثانى ملك البلجيك مرورا بعهود لومومبا وتشومبى وموبوتو سيسى سيكو وكابيلا الأب. وهى الآن تعانى من غزو أجنبى تقوده جماعات تدعمها دولة أفريقية مجاورة ومن تمرد قوى داخلية تمولها شركات ودول غربية تتمسك باستمرار هيمنتها.

 

   لذلك، وكما كان الظن أن دول الغرب وشركاته كانت وراء رفض إعادة تقسيم دول أفريقيا لتنسجم الحدود السياسية مع التكوينات القبلية، يسود الظن الآن بأن هذه الدول وشركاتها ربما تقف وراء الحملة الداعية إلى «تمزيق» دول أفريقيا بحجة إنقاذ شعوبها أو لغرض آخر مثل رغبتها أن تمنع الصين من التوسع اقتصاديا ووقف استيلائها على مصادر المادة الخام باتفاقات مع حكومات الدول الأفريقية. المؤكد أن الصين لا ترحب بتمزيق دول أفريقيا.

 

•••

 

   تمزيق الدول ليس تطورا جديدا. يسجل التاريخ تقسيم إمبراطورية النمسا والمجر فى القرن التاسع عشر، وتمزيق الامبراطورية العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى،  وتمزيق ألمانيا وكوريا وفيتنام فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولا ينكر أحد دور الحرب الباردة فى هذا التمزيق والحروب الناتجة عنه، ولكن لا ينكر أيضا أن توازن القطبين فى مرحلة الحرب الباردة كان الدافع الرئيس لمنع تفتيت دول حديثة النشأة فى أفريقيا، وأنه بانتهاء هذه الحرب انطلقت على الفور حملة تقودها أمريكا ودول فى الاتحاد الأوروبى تشجع دولا فى شرق ووسط أوروبا على الانفراط تحت عنوان تصحيح «أوضاع تاريخية»،  فانقسمت جمهورية تشيكو سلوفاكيا إلى دولتين وانقسمت يوغوسلافيا إلى دول عديدة بعد سلسلة من الحروب الأهلية الدامية نشبت على أسس عرقية ودينية وتاريخية.

 

   فى هذه الحالة، أو الحالتين بمعنى أدق، وقع تمزيق دولتين لتحصين مشروع الوحدة الأوروبية ضد آخر العناصر المسببة للتوتر الإقليمى. وما زال البعض غير واثق تماما من أن تفتيت الدولتين حقق لشعوبهما أحوالا أفضل. أنا شخصيا أعتقد أننا لن نستقر على إجابة شافية تتعلق بالعلاقة بين تمزيق الدولة وإنقاذ شعوبها. إذ بينما حقق الصوماليون الشماليون استفادة من تمزيق الصومال ما زال سكان الجنوب يئنون من ويلات الحرب الأهلية. هناك أيضا ما يشير إلى أن  تمزيق إمبراطورية الحبشة أفاد الشعبين الإريترى والإثيوبى، إذ توقفت حرب أهلية دامت بينهما لسنوات طويلة. وأظن أننا قد لا نتمكن من تقدير نجاح أو فشل تقسيم السودان إلا بعد فترة من الزمن يتضح فيها العائد لكلا الطرفين، والأطراف الأخرى المرشحة للانفصال كدارفور وكوردوفان.

 

•••

 

   يحتدم النقاش هذه الأيام عن البديل لحلف الأطلسى فى أفغانستان. المقرر أن تخرج غالبية قوات الأطلسى من أفغانستان بنهاية العام القادم. والمتوقع حتى الآن هو أن خروج قوات الأطلسى سوف يعنى عودة طالبان إلى كابول وكأن الغزو الأمريكى لم يكن، باستثناء أنه خلف مأساة جديدة تضاف إلى قائمة مآسى أفغانية بطول القرون المديدة. ما البديل؟ هل يترك الأمريكان أفغانستان للطالبان وبخاصة وأن هؤلاء يبدون مظاهر اعتدال واستعداد للتعاون مستقبلا مع «الشيطان» الأمريكى، فى الوقت الذى يسود فى واشنطن منطق يقول بأن المستقبل فى الشرق الأوسط ووسط آسيا آيل إلى حكومات إسلامية ستتعامل معها أمريكا؟

 

   أم يسلم «الناتو» أفغانستان إلى منظومة تتشكل خصيصا من دول فى الإقليم، ويتردد أن التفاوض يجرى حاليا مع تركيا وباكستان والهند لتشكيل تنظيم إقليمى يتولى استعادة الاستقرار إلى ربوع أفغانستان، الشرط الوحيد الذى قد تصر عليه واشنطن هو استبعاد إيران من هذا التنظيم؟

 

  أم يكون البديل تمزيق أفغانستان عرقيا، فتتشكل دولة بالوشيستان الكبرى من الباشتون الذين يعيشون فى أفغانستان وباكستان،  وتنشأ فى أفغانستان دول أخرى أصغر من سكان الشمال والغرب، وتقوم باكستان المقزمة على سكان مقاطعتى السند والبنجاب.

 

      أى بديل من هذه البدائل كاف فى حد ذاته لتفتيت أفغانستان إنقاذا لها.

 

•••

 

    لا يخفى بعض الإعلاميين فى الغرب أنهم مطلعون على استراتيجية لإنقاذ فلسطين تقوم على تكريس الانقسام الراهن. ومثل أى مشروع للتقسيم قد يحتاج تكامل خرائطه الجديدة إلى تعديل فى مساحة «دولة غزة» على حساب أراضى مجاورة أو بالتبادل معها،  وتوسيع مساحة «دولة الضفة» على حساب أراضى على الناحية الأخرى. يتصورون إنقاذ فلسطين على مراحل أولاها التقسيم وقد حدث،  ثم الانكباب على رسم خريطة جديدة لكل من القسمين ثم الحصول على الاعتراف الدولى.

 

  يتحدثون عن إنقاذ سوريا. وكلما ازدادت الحرب توحشا، زادت الأفكار الداعية لتمزيق الدولة إنقاذا لشعبها وحفاظا عليه. العقبة التى تواجه هذا النوع من التفكير بالنسبة لسوريا هو أن الجيران جميعا بدون استثناء غير مستعدين لدفع الثمن الباهظ للبدائل المطروحة لإنقاذ سوريا.

 

•••

 

 البعض منا فى مصر ما زال يتعامل بخفة أو بأنانية شديدة أو بضيق أفق مع تدهور كافة أحوالنا، وغالبيتنا ما زالت تتجاهل الخطورة التى يمثلها التصاعد المتزايد فى قوة التيارات الخارجية الداعية إلى إنقاذ مصر.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي