كشفت جائحة كوفيدــ19 بعد عامين ودخولنا فى العام الثالث، وظهور العديد من المتحورات، آخرها المتحور الجديد أوميكرون، عن خلل فى المنظومة الصحية، وهشاشتها عالميا ومحليا؛ هذه المنظومة القائمة على تسليع الخدمات الصحية والأدوية واللقاحات، وإدارة أزمة جائحة عالمية بمنطق السوق، وغياب التضامن الحقيقى، وعدم وجود آليات فعالة للتوزيع العادل للقاحات ومستلزمات الصحة بين بلدان فقيرة وبلدان غنية قادرة على الشراء استحوذت على سلاسل الإمداد من اللقاحات؛ حيث تم إعطاء نحو 8 مليار جرعة لقاح فى العالم لنحو 53% فقط من سكان العالم، حصلوا على جرعة واحدة على الأقل، والباقى نحو 47% لم يحصلوا على أى نوع من اللقاحات، خاصة فى إفريقيا والبلدان الأفقر عالميا مما ساهم فى مزيد من انتشار الوباء ومن ثم حدوث المتحور الحالى.
ورغم المبادرات العالمية مثل مبادرة كوفاكس، والتى كان من المفترض أن تضمن حصول كل بلدان العالم وخاصة الفقيرة والمتوسطة على 20% على الأقل من اللقاحات، ورغم هذه النوايا الطيبة فإنها لم تفِ بذلك فى ظل النفعية العالمية ضيقة الأفق التى جعلت الدول الأغنى تستحوذ على كميات كبيرة فى حين الدول الأفقر لم تستطع حتى تطعيم فئاتها الأكثر عرضة للإصابة، هذه النفعية والقومية ضيقة الأفق التى جعلت نفس هذه الدول الأغنى مهددة مرة أخرى بموجة جديدة تهدد الاقتصاد العالمى وتهددهم بالإغلاق مرة أخرى.
وظهر هذا المتحور الجديد، والذى لا ندرك حتى الآن مدى خطورته أو استجابته للقاحات نتيجة لغياب عدالة التوزيع، فمنذ البداية لو كان هناك توزيع عادل قائما على التضامن الفعلى وليس الخيرية والتبرعات لما ضيعنا عاما كاملا فى نفس الدائرة المغلقة المرهقة، فكما توضح الإحصائيات فإن نصف سكان العالم تقريبا لم يتلقوا أى جرعة لمواجهة الخطر المنذر.
•••
فى هذا السياق لخلل النظام العالمى الصحى فى الوباء وقبل الوباء، وكمحاولة مبكرة للتخفيف من اللامساواة وإيجاد حلول استباقية لها، تقدمت كل من الهند وجنوب إفريقيا وانضمت إليهم عدة دول أخرى بما فيها مصر بطلب تعليق مؤقت لبعض بنود اتفاقية التريبس المنظمة لحقوق الملكية الفكرية للمساعدة فى تعزيز الإمداد العالمى باللقاحات على وجه التحديد للدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وهذا ما ترفضه حتى الآن الدول الغنية مثل دول الاتحاد الأوروبى وشركات الأدوية حفاظا على سياسات الاحتكار والاستحواذ ومصالح الرأسمالية قصيرة النظر، وهذا ما جعل كوفيد مستمرا معنا للعام الثالث على التوالى، وعلى التحديد ظهور المتحور الأخير الذى لا نعرف مدى خطورته حتى الآن ولا استجابته للتلقيح. فنعيش فى نفس دائرة الأزمة مجددا، فانتشار الفيروس عالميا يؤدى قطعا لمزيد من التحورات.
والآن يعاقب العالم الأغنى جنوب إفريقيا على سرعة شفافيتها واكتشافها وإعلانها عن المتحور الجديد عبر سياسات العزل وقطع الطيران، رغم تحذير منظمة الصحة العالمية من عدم جدوى قطع الطيران، مما يعد فشلا جديدا فى تنفيذ اللوائح الصحية الدولية الحالية. وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الصحة العالمية ومركز السيطرة على الأمراض فى إفريقيا حذرا بشدة من فرض حظر السفر على الأشخاص القادمين من البلدان التى أبلغت عن هذا المتحور حيث أنه «فى الواقع، خلال فترة هذا الوباء، لاحظنا (أى مركز السيطرة على الأمراض فى إفريقيا) أن فرض حظر على المسافرين من البلدان التى تم الإبلاغ عن متغير جديد فيها لم يسفر عن نتيجة ذات مغزى». وانتقد أمين عام الأمم المتحدة «عزلة دول جنوب إفريقيا بسبب قيود السفر التى فرضت أخيرا» وأشار إلى أن «حدوث المتغيرات كانت بسبب انخفاض نسبة التطعيم فى مناطق من العالم»، حيث أن هذا يعتبر بمثابة معاقبة لجنوب إفريقيا على تحديد المعلومات العلمية الدقيقة بسرعة ومشاركتها مع العالم، وألمح إلى عدم عدالة توزيع اللقاحات عالميا،و وصف سلوكيات الدول الغنية بـ«الوضع غير الأخلاقى» الذى أدى إلى «مستويات متدنية للتطعيم» فى إفريقيا.
وهذا ما دفع أخيرا فى جلسة الجمعية العالميه للصحة إعلان مدير منظمة الصحة إلى ضرورة عقد اتفاق دولى جديد بشأن التزامات التأهب للجوائح والاستجابة لها قائم على المشاركة فى البيانات والتضامن العالمى للخروج من الأزمة ومازالت المفاوضات جارية حول ذلك، وذلك بغرض لتعزيز الوقاية من الجوائح والتأهب والاستجابة لها، وافقت جمعية الصحة العالمية على صياغة اتفاق يحمى العالم من الأزمات الصحية المستقبلية. واتفقت الجمعية على إنشاء هيئة تفاوض حكومية دولية لصياغة اتفاقية أو اتفاق أو صك دولى آخر بشأن الوقاية من الجوائح والتأهب والاستجابة لها، والتفاوض بشأنه.
•••
فما العمل وما الحل؟ لا جدال على ضرورة التنازل الآن وفورا عن حقوق الملكية الفكرية للقاحات كوفيدــ19، والتضامن العالمى لإنتاج أكبر كمية من اللقاحات وتطويرها باعتبارها ملكية عامة عالمية، فهل يفهموا أخيرا المطلوب لإنقاذ البشرية فلا اقتصاد بدون صحة ولا اقتصاد مستدام بدون عدالة توزيع لمنجزاته ومنها الأدوية واللقاحات ومستلزمات المقاومة، وأيضا من الضرورى أن نستمر فى المطالبة باتفاقية جديدة عادلة للأوبئة وتوزيع الأدوية واللقاحات ولوائح دولية أكثر عدلا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن نستغل فرصة ظهور المتحور الجديد (رغم القلق العالمى والخوف) للتذكير بأن عدم توفر اللقاحات سوف يؤدى بالضرورة إلى مزيد من المتحورات والتى أثبتت قدرتها على الوصول إلى كل بلاد العالم فى وقت سريع.