فى دراسات الأمن القومى والجيوبوليتيكس تسعى الدول إلى الإعلاء من مكانتها فى النظام الدولى بما يؤدى إلى زيادة الدور الذى تلعبه، ولا شك أن القدرات تحدد ترتيب الدول ومكانتها ثم نفوذها وتأثيرها، بيد أن هناك ما هو أهم من الموارد ألا وهو المكان أو على حد تعبير عالمنا الفذ جمال حمدان، حيث رأى أن الموقع يحدد الموضع أى المكانة، فالمكان يقرر بالضرورة المكانة والأهمية التى تكتسبها الدولة وتمارسها فى النظام الدولى، ومع ذلك، قد يصبح المكان نقمة ولو بشكل مؤقت، حينما تصير الدولة مطمعا للآخرين ومحل تنافس شرس بين القوى المسيطرة على النظام الدولى، ففى كتاب ريتشارد فولك حول السياسة فى الشرق الأوسط أكد على أن الموقع الجيوستراتيجى لمصر يغرى الدول الكبرى بمحاولة احتلالها. وقد شغلت المكانة المفكرين والسياسيين عبر التاريخ وتطورت بالتغير التكنولوجى فى عناصر القوة خصوصا العسكرية، ففى القرن التاسع عشر رأى ألفريد ماهان أن من يمتلك القوة البحرية يمتلك المكانة ويستطيع السيطرة على العالم، وقد دفع ذلك الولايات المتحدة إلى بناء أسطول بحرى ضخم يمكن أن ينافس القوة البحرية البريطانية، بيد أنه مع بداية القرن العشرين وضعف القوى البحرية التقليدية البريطانية والفرنسية، تم التحول إلى اليابسة كمصدر للقوة والمكانة ومن ثم السيطرة، أتى هالفورد ماكندر بنظرية مختلفة حول أهمية اليابسة فى تحديد قوة الدولة ومكانتها: واعتبر أن من يسيطر على قلب الأرض أو محورها يسيطر على العالم.
بغض النظر عن الموارد والقدرات. وهى مهمة بالتأكيد ــ فإن المكان يلعب الدور الأعظم فى تحديد مكانة الدولة، فالدول المطلة على البحار والمضايق والممرات الدولية تكتسب مكانة دولية واهتماما دوليا كبيرا، أما الدول الداخلية، فمهما كان لديها من موارد لا تكتسب مكانة دولية تذكر. فالموانئ الكبرى والسواحل الطويلة الدافئة تزيد من مكانة الدولة، انظر إلى سنغافورة ومصر وتركيا واليونان وفرنسا وبريطانيا، وحاول أن تقارن مكانها ومكانتها بدول مثل أفغانستان المغلقة والمعتمدة على دول الجوار فى التجارة والاتصال بالعالم الخارجى.
ولا يتوقف تأثير المكان فقط على المكانة الاستراتيجية للدولة فى النظام الدولى، بل إن نظريات الحداثة والتنمية السياسية تشير إلى الأثر الكبير للمكان على الشخصية القومية، national character، ثم على الصورة القومية فى الخارج، national image، فالشعوب فى المدن الساحلية أكثر ليبرالية وانفتاحا عن الشعوب التى تقطن مناطق مغلقة أو صحراوية، وبينما يتسم الأول بالمرونة والأريحية يتصف الآخرون بالغلظة والخشونة والميل إلى الصدام، ومن المهم أن مثل تلك الاختلافات يتم وضعها فى الحسبان عند إجراء أية مفاوضات تتعلق بالتوتر أو النزاع أو الصراع، ويدخل ذلك أيضا فى الاعتبار عند توظيف القوى الناعمة للدول فى زيادة مكانتها وتعظيم تأثيرها، فهناك من يركز على الفنون وخصوصا الموسيقى، ومن يوظف الطعام والأكلات السريعة، ومن يستخدم الفرق الرياضية، ومن يمد يد العون فى شكل منح وبعثات دراسية للتعليم العالى، وهكذا.
وفى النظام الدولى المعاصر هناك سباق محموم بين الدول التى تحتل أماكن متميزة ولديها قدرات منفردة حول المكانة وما يتصل بها من سلطان ونفوذ؛ حيث إن المكانة والنفوذ تجنى المكاسب والفوائد الاقتصادية والتجارية غير المحدودة فى نظام دولى أقرب إلى التحيز، إذ بينما يصل إجمالى الناتج الدولى الإجمالى عام (۲۰۲۱) ۹٣ تريليون دولار فإن الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وحدها تستحوذ على نصفه كاملا، بل إن الناتج القومى الإجمالى للولايات المتحدة يعادل إجمالى الناتج القومى الإجمالى لحوالى ۱۷۰ دولة مجتمعة، يحدث ذلك، بينما يصل حجم الدين الدولى على (۲۰۲۲) حوالى ۳۰۰ تريليون دولار، تتركز فى الدول النامية، ولا عازة للتأكيد على أن جزءا كبيرا من الصراع بين القوى العظمى والكبرى يتمحور حول المكانة وما يرتبط بها من نفوذ وتأثير، وكانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان تكاد تحتكر المكانة العليا فى النظام الدولى حتى حينما كان ثنائى القطبية، وتحاول الصين وروسيا ودول البريكس وغيرها وضع حد لاحتكار الحضارة الغربية للمكانة العليا، وتدعو إلى ضرورة الانتقال إلى نظام دولى تعددى أكثر ثراء ثقافيا وأكثر تنوعا فكريا وأقل احتكارا وأوسع انفتاحا. إذن الصراع على قيادة النظام الدولى هو فى أساسه صراع على المكانة وما تسبغه على الدول من مكاسب كبرى وقوة تصل إلى حد القوامة على الآخرين.
بيد أن العقدة لا تتوقف عند هذه الحدود، بل تمتد إلى مستوى أكثر تشابكا وتداخلا، فهناك أحيانا تناقض بين المكانة المتوقعة للدولة Ascribed Status والتى تقاس بالموارد والقدرات والمكان، وهى مكانة سياسية أيديولوجية سيكولوجية، وبين المكانة المتحققة Achieved Status والتى تعكس الوزن الفعلى للدولة فى مصفوفة ترتيب الدول من حيث النفوذ والنفاذ إلى لب التفاعلات الدولية، فالمكانة المتميزة والمقررة للدولة تزيد من التوقعات بدور فعال وواسع فى النظام الدولى، بينما قدرات الدولة لا تؤهلها لذلك، من ثم توجد فجوة بين ما تتوقعه الدولة من دور وما تحققه على أرض الواقع، وباتساع هذه الفجوة تزيد الضغوط على صانع القرار لرأب الصدع واختراق التوازن الدولى غير الملائم ومحاولة تعديله بما يزيد من مكانة الدولة ومن ثم نفوذها، ففى كثير من الأحيان يتسم النظام الدولى بالجمود مما يدفع بصانع القرار إلى افتعال أزمات إقليمية أو دولية تصل إلى حد الحروب المباشرة توطئة لإفساح المجال للتقريب بين المكانة المتوقعة والمكانة المتحققة.
إن خصائص النظام الدولى الراهن وخصوصا سيولته وغموضه يدفع بالدول الكبرى والوسطى إقليميا إلى خوض غمار صراعات واختلاق أزمات وشن حروب من الممكن تجنبها وحماية البشرية من سعيرها إذا مارست الدول أدوارها التى تعكس بحق مواردها ووزن قدراتها. بيد أن الميل إلى التوسع والسيطرة وتكريس المكانة القومية بصرف النظر عن قيمة ووزن مكانة الآخرين وربما على حسابهم أو خصما من مكانتهم يدفع إلى الصراع ويعمق الشقاق الدولى، وفى هذا الإطار، فإن مكان وموقع الوطن العربى الجيوستراتيجى يدفعه إلى أن يصير قلب العالم ومصر هى قلبه النابض. بيد أن المكانة التى يتمتع بها الوطن العربى أقل بكثير من قيمة ووزن هذا القلب، ولكى يكتسب المكانة المستحقة على أعضائه ضرورة التكاتف والتكامل والاندماج لتحقيق هذا الهدف الجماعى.