ماذا يعنى أن يقوم أفراد من الشرطة بتوقيف أفراد من الجيش للتحقيق معهم؟
لم يحدث هذا الأمر فى اليابان.. أو فى بريطانيا أو الولايات المتحدة، لكنه حدث فى تركيا حيث كان الجيش لعقود طويلة يمسك بتلابيب الحكم السياسى باعتباره الوريث الشرعى لمؤسس الدولة الحديثة مصطفى أتاتورك.
التهمة الموجهة إلى أفراد الجيش هى التخطيط لاغتيال نائب رئيس الحكومة. وهذا يعنى أن الانقلاب العسكرى لم يعد فى متناول اليد كما كان فى السابق.. وأنه حتى لو توافرت النية فالإمكانات لم تعد متوافرة.. ولا القاعدة الشعبية مؤهلة لتقبل ذلك مرة جديدة.
لقد انتهى ذلك الزمان الذى كان العسكر فى دول العالم الثالث فى آسيا وأفريقيا خاصة يقومون بانقلاب ضد السلطة المدنية وينتظرون تسابق الدول الأخرى على الاعتراف بالحكم الجديد. فالزمن اليوم هو زمن رفض الانقلابات العسكرية وعدم التعامل معها، بل والضغط عليها لإلغاء ذاتها، كما حدث فى موريتانيا، وبعد ذلك فى هندوراس.
ففى موريتانيا تآلفت الدول الأفريقية ضد الانقلاب العسكرى وقاطعته، حتى إنها أدرجت موريتانيا على قائمة المقاطعة. نجح الانقلاب العسكرى فى نواكشوط فى الاستيلاء على السلطة، ولكنه فشل فى توفير الشرعية الدولية له. فاضطر العسكر إلى الانكفاء، ومن ثم إلى المحافظة على «ماء الوجه» عبر الإخراج الذى وضع فى الدولة الجارة، السنغال. صحيح أن قائد الجيش أصبح رئيسا، ولكن ذلك حدث بالانتخاب. أى بالوسيلة الديمقراطية وليس بالانقلاب العسكرى.
وفى هندوراس فى أمريكا الوسطى، نجح العسكر فى الإطاحة برئيس الدولة وحكومته، ولكنهم فشلوا فى الحصول على اعتراف شرعى واحد من أى دولة من دول أمريكا اللاتينية. حتى الولايات المتحدة التى كانت تعتبر نظام الحكم الذى سقط تحت مجنزرات الجيش الهندوراسى ــ نظاما يساريا متحالفا مع كل من كوبا وفنزويلا، لم تستطع إلا أن ترفض الاعتراف بالانقلاب. وذهبت إدارة الرئيس باراك أوباما إلى أبعد من ذلك عندما طالبت بإعادة الرئيس الهندوراسى المخلوع إلى السلطة، ليس حبا فيه، إنما احتراما للشرعية. وقد قطع هذا الموقف الأمريكى الطريق أمام أى دولة أمريكية لاتينية، أو غير لاتينية للاعتراف بالانقلاب العسكرى أو للتعامل معه.
ـ ـ ـ ـ ـ
لقد عرف العالم الثالث فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية سلسلة لا تحصى من الانقلابات العسكرية منذ منتصف القرن الماضى حتى نهاية الحرب الباردة. وكانت تلك الانقلابات تبدأ بفرض شرعيتها الداخلية بالاستيلاء على الإذاعة والتليفزيون، وباعتقال رجال الدولة وسجنهم أو قتلهم أو إبعادهم. كما كانت تستمد شرعيتها الخارجية من تهافت الدول الأخرى على الاعتراف بها حرصا من هذه الدول إما على مصالحها الاقتصادية، أو تخلصا من خصومها السياسيين.
بل إن العديد من الانقلابات العسكرية كانت تخطط لها وتسهر على تنفيذها دوائر الاستخبارات الخارجية (الأمريكية أو الفرنسية أو البريطانية أو السوفييتية أو سواها من الدول صاحبة النفوذ والقادرة على استقطاب العسكر فى بعض الدول النامية). وكانت الانقلابات الوسيلة الوحيدة لتغيير نظام معاد وإعادة تركيب نظام موال.
وعرف العالم العربى فى كل من (مصر ــ سورية ــ العراق ــ ليبيا ــ اليمن) هذا النوع من الانقلابات والانقلابات المضادة ودفع ثمنها غاليا جدا تحت غطاء مواجهة العدو الإسرائيلى والتصدى لمشاريعه وبرامجه التوسعية.. ولم يفتقر أى من تلك الانقلابات إلى دول مؤيدة له بعد إذاعة البيان رقم واحد.
هذا الواقع تغير الآن.. فالمناداة بالديمقراطية كثقافة للحكم السياسى تتناقض مع العسكريتاريا التى تفرض ذاتها بالقوة المسلحة.
فقد عرفت تركيا، التى يعتبر جيشها القوى نفسه المدافع عن قيم العلمانية، سلسلة من الانقلابات العسكرية، إلا أنها اليوم أصبحت تتحدث عن فكرة الانقلاب العسكرى بالسخرية والإدانة معا. وينظر الجيش التركى إلى مجرد اتهامه بالتفكير بالقيام بانقلاب عسكرى، على انه افتراء وتشويه لدوره ولسمعته الوطنية. ولقد اضطر قائد الجيش ورئيس الأركان وهيئة مجلس القيادة إلى المثول أمام لجنة تحقيق تركية للدفاع عن أنفسهم من تهمة التخطيط للانقلاب. وبلغ بهم الأمر أنهم اتهموا جماعات إسلامية متشددة باختلاق هذه التهمة للإساءة إلى الجيش.
لقد انتهى ذلك الوقت الذى كان الجيش يفاخر بأنه يقوم بالانقلاب للدفاع عن الوطن وقيمه. وأصبح الجيش يعتبر مجرد الادعاء بأنه يفكر بالانقلاب، اتهاما ظالما وخيانة وطنية.
مع ذلك فإن هذه الآفة لا تزال تجد طريقها إلى بعض الدول الصغيرة والمتخلفة فى أفريقيا. إلا أن الانقلابات العسكرية التى وقعت مؤخرا فى بعض دولها لم تحدث على خلفية عقائدية أو سياسية، إنما نتيجة لخلافات حول الحصص المتنازع عليها من الاستثمارات المعدنية وفى مقدمتها النفط واليورانيوم والأحجار الكريمة.
هناك أمران ثابتان فى التعامل مع الانقلابات العسكرية فى أفريقيا. الأمر الأول هو احترام حدود الدول على أنها حدود ثابتة. وهذا الأمر الذى ينص عليه ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية وقد وافقت عليه جميع الدول الأعضاء. ذلك أن أى تغيير فى رسم الحدود السياسية كما وضعها المستعمر ووافقت عليها الحكومات الوطنية التى ورثت الكيانات السياسية عن المستعمر، من شأنه أن يؤدى إلى فتح «صندوق باندورا» على ما فيه من المفاجآت غير السارة. ولذلك لم يحاول أى من رجال الانقلابات العسكرية فى أفريقيا فتح ملف الحدود مع أى دولة مجاورة، رغم التداخل القبائلى والعرقى.
أما الأمر الثانى فو يتعلق بالدول التى استعمرت أفريقيا. ويقضى هذا الأمر بامتناع هذه الدول عن التحريض على القيام بانقلاب عسكرى فى أى دولة أفريقية بهدف تغيير ولائها السياسى. وهكذا التزمت الانقلابات العسكرية بحدود الدولة الوطنية، والتزمت الدول الاستعمارية بولاءات مناطق نفوذها السابقة.
فالدول التى استعمرتها فرنسا مثلا لم تتحول إلى الهيمنة البريطانية، وبالعكس. غير أن ثمة تحولات حدثت عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية فى الدول التى كانت خاضعة للاستعمار البرتغالى. ونظرا لضعف البرتغال وتراجعها، فقد استباح الآخرون ــ عبر الانقلابات ــ مستعمراتها السابقة وكان فى مقدمة هؤلاء الآخرين، الولايات المتحدة.
ولكن حتى فى هذه الدول لم يعد مسموحا الاعتراف أو التعامل مع الانقلاب العسكرى.
ولعل المحاولات الانقلابية التى جرت فى تشاد، على خلفية الصراع التشادى ــ السودانى فى دارفور وقبل ذلك الصراع التشادى ــ الليبى، تؤشر إلى ذلك. فالعصا الدولية كانت ترفع فى وجه الانقلابيين التشاديين فى كل مرة كانوا يقتربون من هدفهم بإسقاط السلطة الشرعية. أما ما يحدث فى الصومال فإنه استثناء. ذلك أنه لا يوجد فى هذه «المساحة الجغرافية» دولة وحكومة وجيش بالمعنى القانونى الدولى. ولو كان فيها جيش قادر على الإمساك بالأمور، ربما لتعامل معه العالم ولو بصورة استثنائية لإخراج البلاد من الفوضى العامة التى تحصد يوميا أرواح العشرات من الأبرياء، والتى تحولت إلى مصيدة للسفن العابرة بين البحر الأحمر والمحيط الهندى.
لقد كانت دول العالم الثالث مسرحا للصراع بين القطبين السوفييتى والأمريكى طوال الحرب الباردة التى امتدت على مدى أكثر من أربعة عقود. وكانت جيوش هذه الدول نقطة استقطاب هذين القطبين. أما الآن وقد وضعت الحرب الباردة أوزارها، فإن محاولات استقطاب هذه الدول لم تعد مكلفة.. ولم تعد تمرّ بالضرورة عبر قواتها المسلّحة!!