على الرغم من أن واجهة أفريقيا وإطلالتها على أوروبا، هى واجهة عربية، من مصر حتى المغرب، وموريتانيا، مرورا بليبيا وتونس والجزائر. وعلى الرغم من أن قلب أفريقيا إسلامى، من السنغال فى الغرب، حتى السودان وإريتريا والصومال فى الشرق. فإن الدور العربى فى أفريقيا فى انحسار، والدور الإسلامى فى تراجع. ولأن الطبيعة السياسية، هى كالطبيعة الفيزيائية لا تعرف الفراغ، فقد سارع إلى ملء الفراغ المترتب عن التراجع وعن الانحسار، كل من إسرائيل وإيران.
فالدولتان تتنافسان على كسب ود الدول الأفريقية وعلى توسيع مساحة المصالح المشتركة معها.
بالنسبة لإيران تسجل الوقائع قيام مسئولين إيرانيين بعشرين زيارة لدول افريقية خلال العام الماضى وحده. ضمت تلك الزيارات مسئولين سياسيين وعسكريين واقتصاديين وإعلاميين. وجرى خلالها التوقيع على العديد من الاتفاقات الاقتصادية، والمعاهدات الأمنية.
وتسير المبادرات الإيرانية باتجاه أفريقيا على قدمين اثنتين: النفط الذى يقدم بأسعار خاصة منخفضة عن أسعار السوق العالمى، والمال الذى يمنح للمساعدات الاجتماعية والتنموية.
وإذا أخذنا السنغال مثلا، وهى دولة تبلغ نسبة المسلمين فيها 95 بالمائة، فقد أنشأت إيران فيها مصنعا للسيارات. وهى تعمل الآن على إنشاء مصنع آخر للتراكتورات. وتعهدت ببناء مصفاة للنفط، إضافة إلى مصنع للكيماويات. بالمقابل حصلت إيران من السنغال على دعم سياسى مطلق. ذلك أن دكار هى أكثر العواصم الأفريقية تأييدا للمشروع النووى الإيرانى، وقد أعلنت عن ذلك خلال استقبالها الرئيس أحمدى نجاد.
وتتوجه الدبلوماسية الإيرانية نحو ثلاث دول أخرى فى غرب أفريقيا، هى موريتانيا وجامبيا ونيجيريا. وقد أقامت إلى جانب العلاقات السياسية الوطيدة معها علاقات اقتصادية وثقافية واسعة النطاق أيضا.
أما فى شرق أفريقيا، فإن السودان يلعب الدور الذى بدأت تلعبه السنغال. فقد أقام الإيرانيون قرب العاصمة الخرطوم، مصنعا لإنتاج السلاح والذخيرة، يمثل الصيغة التنفيذية لمعاهدة التعاون العسكرى بين الدولتين.
وخلال زيارته لكينيا فى العام الماضى، وقع الرئيس أحمدى نجاد على اتفاق لتصدير أربعة ملايين طن من النفط سنويا إليها. كما وقع على اتفاق آخر لفتح خط طيران مباشر بين طهران ونيروبى. وهناك اتفاق بين الدولتين على تبادل الطلاب والبعثات التعليمية، وقد منح ذلك إيران الفرصة لإقامة سلسلة من المراكز الثقافية خاصة فى منطقة مومباسا ذات الأكثرية الإسلامية فى كينيا!!
وفى أوغندا التى اكتشف النفط فيها مؤخرا، وافقت إيران على تمويل بناء خطوط للأنابيب ومصفاة للنفط.
ووصل التحرك الإيرانى إلى جنوب أفريقيا التى تستورد من إيران كميات كبيرة من النفط سنويا، فيما تقوم شركات أفريقية جنوبية بالاستثمار فى قطاع الاتصالات فى إيران. ولذلك ليس غريبا أن تعتبر جنوب أفريقيا من الدول المؤيدة لإيران فى الأمم المتحدة.
لقد أصبحت إيران واقعيا قوة يحسب لها فى أفريقيا إلى جانب كل من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى والصين. من هنا يأتى السؤال: أين المجموعة العربية التى كانت تتمتع بنفوذ واسع فى القارة الأفريقية؟
***
إن أهم ما فى الإنجازات التى حققتها وتحققها إيران هى إنها تقطع فى ذلك الطريق أمام إسرائيل التى تحاول جاهدة من خلال التحالف مع الولايات المتحدة وأوروبا، مصادرة القرار السياسى الأفريقى ومحاولة الهيمنة عليه من خلال المساعدات الإسرائيلية المباشرة، وغير المباشرة.
لقد عانت أفريقيا ــ فيما عانت ــ من الانقسامات العربية التى تفجرت، ولم تزل تتفجر على مسرحها. من الصراع المغربى ــ الجزائرى حول الصحراء الغربية؛ إلى الصراع السودانى ــ التشادى، والصراع الأثيوبى ــ السودانى، والصراع الإريترى ــ التشادى، إلى الحرب الأهلية فى الصومال، والحروب الانقسامية فى جنوب السودان وشرقه فى دارفور.
كانت أفريقيا تعلق آمالا على المال العربى (النفط)، وعلى النفوذ العربى (مصر) وعلى الثقافة العربية (الإسلام)، فإذا بكل هذه الآمال تتبخر.. وإذا بالأحلام الأفريقية السعيدة تتحول إلى كوابيس مخيفة. فكان الانقلاب على اليد العربية المدعومة إسلاميا لمصلحة اليد الإسرائيلية المدعومة أمريكيا.
ولعل أبرز معالم النجاح الإسرائيلى فى ملء الفراغ العربى التسلل الإسرائيلى إلى الدولة العربية الإسلامية الأفريقية، موريتانيا، التى سبق لها أن اعترفت بإسرائيل وتبادلت معها السفراء. ولم يسقط هذا الإنجاز الإسرائيلى إلا بعد اضطرابات حادة أدت إلى تغيير نظام الحكم فى نواكشوط مرتين. ولعل من المثير للاهتمام أن إيران تؤكد أنها هى وليس جامعة الدول العربية ضغطت على موريتانيا لسحب سفيرها من إسرائيل، ولكن هل موريتانيا سحبت الاعتراف بإسرائيل أيضا؟
لقد أدى الموقف الموريتانى إلى رد فعل إسرائيلى تمثل بالامتناع عن إكمال بناء مستشفى عام فى نواكشوط، فقررت إيران إنجاز المشروع على نفقتها.
حدث الأمر ذاته فى السنغال أيضا. فقد سبق أن تعهدت إسرائيل ببناء محطة لتكرير المياه وللصرف الصحى فى مدينة توبا (وهى عاصمة حركة الإسلام الصوفى فى السنغال). غير أن إيران عرضت القيام بالمشروع. فوجد محافظ المدينة نفسه مخيّرا بين عرضين إسرائيلى وإيرانى، فكان طبيعيا أن يختار العرض الإيرانى.
***
تدرك إسرائيل أهمية التمدد فى أفريقيا. ولذلك قام وزير خارجيتها أفيجدور ليبرمان (نفسه والذى يخشى زيارة دول أوروبية عديدة بسبب سوء سمعته) بجولة على عدد من الدول الأفريقية، شملت كلا من أوغندا وأثيوبيا وكينيا فى الشرق، وغانا ونيجيريا فى الغرب، حاملا معه سلة من المشاريع المقترحة للرى والزراعة والتسلح.. وخصوصا التسلح. على أن أهم ما حمله هو وضع معلومات أجهزة المخابرات الإسرائيلية بتصرف هذه الدول فى مواجهتها للإرهاب الذى تمارسه حركات التطرف الإسلامى.
ويلقى هذا العرض آذانا صاغية لدى الدول المجاورة للصومال، وخصوصا إثيوبيا وكينيا. وحتى لدى نيجيريا التى تشهد انفجارات أمنية على خلفية صراعات دينية. وتعتبر نيجيريا الزبون الأول للسلاح الإسرائيلى، وبلغ حجم مشترياتها من هذا السلاح نصف مليار دولار فى الأعوام القليلة الماضية.
فى الخمسينيات من القرن الماضى ورثت إسرائيل عن الدول الغربية التى استعمرت القارة، مواقع نفوذ واسعة النطاق. غير أن البعد العربى والإسلامى فى القارة أدى إلى تجريدها من هذه المواقع خصوصا بعد حربى 1967 و1973، وكذلك بعد الانتفاضة الفلسطينية 1989.
أما الآن فيبدو أن الأمر انقلب رأسا على عقب. فالحضور العربى فى القارة الأفريقية فى تراجع.. بل أن الصراعات العربية ــ العربية فى أفريقيا أصبحت عبئا على القارة. وصورة الإسلام العربى تشوهها الاتهامات الظالمة الموجهة إليه بأنه مصدر التطرف والإرهاب.. الأمر الذى أدى إلى فتح أبواب أفريقيا أمام إسرائيل.. وأمام الإسلام الإيرانى.