تنص المادة الأولى من الدستور الامريكى على «حماية الحرية الدينية». بعد 11 سبتمبر/ ايلول 2001، ارتفعت أصوات فى الولايات المتحدة تطالب باستثناء الإسلام من هذه الحماية الدستورية. ويعارض أصحاب نظرية الاستثناء هذه أى مشروع لبناء مسجد جديد.
فى عام 2000، كان عدد المساجد فى الولايات المتحدة يبلغ 1209 مساجد. وخلال عقد واحد ارتفع هذا العدد فى عام 2001، عام ارتكاب جريمة نيويورك وواشنطن إلى 2016 مسجدا. إلا أنه منذ ذلك الوقت تراجعت وتيرة بناء المساجد بسبب الاحتجاجات والمعارضات التى يبديها سكان المناطق التى يعلن عن مشروع لبناء مسجد جديد فيها.
مع ذلك، كان 54 بالمائة من الأمريكيين فى عام 2000 يتهمون الاسلام بأنه دين معاد. هذه النسبة انخفضت الآن إلى 25 بالمائة. لكن هذا الانخفاض العددى لم يتلازم مع انخفاض نوعى. بمعنى أن الذين يعتبرون الاسلام معاديا ازدادوا تشددا وتطرفا ومجاهرة فى العداء. وأكثر ما تبرز هذه الظاهرة الخطيرة فى الولايات الجنوبية التى تعرف «بالحزام الإنجيلى» نظرا لتشددها الدينى.
●●●
يتراوح عدد المسلمين فى الولايات المتحدة بين ثلاثة وسبعة ملايين. وهم ينتشرون فى سائر الولايات، وينحدرون من اثنيات مختلفة. وتحرص كل جماعة منهم على أن تكون لها مساجدها الخاصة بها. الأمر الذى ادى ويؤدى إلى تضخم عدد المساجد والى تزايدها المضطرد. فللباكستانيين مساجدهم. وللهنود مساجدهم. وكذلك للأتراك، وللإيرانيين والعرب إلخ.. وقليلة جدا هى المساجد التى يتجمع فيها مسلمون من مختلف الأجناس والثقافات تحت لغة واحدة، هى اللغة الإنجليزية.
تقول دراسة لمؤسسة أمريكية للاستقصاءات (بيو) ان معظم المسلمين استطاعوا الاندماج فى المجتمع الأمريكى. ولكن هذا الاندماج لم يردّ عنهم كيد المتطرفين الذين يستعدون الاسلام عن جهل به. أو الذين يصدرون أحكامهم على الاسلام فى ضوء جريمة 11 سبتمبر 2001 وما ترتب عليها من أفعال وردود أفعال داخل الولايات المتحدة ذاتها، وفى العديد من الدول الأخرى.
ولعل المسلمين فى ولاية نيويورك هم الأكثر تعرضا لمشاعر العداء، وخاصة من رجال الأمن. فقد استحدثت شرطة ولاية نيويورك فرقة خاصة لمراقبة المسلمين والتجسس عليهم وإعداد تقارير دورية عن نشاطاتهم. وتشمل أعمال المراقبة بيوتهم، ومراكز عملهم، ومساجدهم، وحتى المدارس التى يدرسون فيها، بما فى ذلك الطلاب المسلمين فى جامعات كولومبيا ويال ونيويورك وسواها. فالمسلم لدى شرطة نيويورك ليس موضع مراقبة فقط، ولكنه موضع شبهة. وبسبب هذه الاجراءات لجأت عائلات أمريكية إلى الإيعاز إلى ابنائها بعدم مصادقة المسلمين أو مزاملتهم أو التعاون معهم حتى لا يقعوا هم ايضا فى دائرة الشبهة !
ويعمل فى هذا الجهاز البوليسى الأمنى مخبرون ومترجمون يجيدون خمسين لغة أجنبية منها الأردية والبنغالية والبوشتية والفارسية والعربية. وذلك على أساس ان هذه اللغات هى اللغات التى يحكيها «الارهابيون المسلمون»، الأمر الذى يتطلب إخضاع مكالماتهم واتصالاتهم وحتى أحاديثهم إلى المراقبة الدائمة!!
وبما أن كثيرا من المسلمين يعملون فى نيويورك ويقيمون فى خارجها، فإن اجراءات المراقبة تطاردهم إلى حيث يقيمون، الأمر الذى أثار غضب سلطات الامن المحلية فى تلك المناطق.
قد يكون لدى نيويورك، مدينة وولاية، ظروفها الاستثنائية الخاصة التى حملتها على اتخاذ هذه الاجراءات الاستثنائية بما تتسم به من قمع وانتهاك لحقوق الإنسان. فقد دفعت غاليا جدا ثمن جريمة 11 سبتمبر 2001، وتعرضت بعد ذلك لسلسلة محاولات ارهابية كان آخرها محاولة تفجير سيارة مفخخة فى احدى أهم ساحاتها الرئيسة ــ تايمز سكوير ــ.. ثم انها أكثر مدينة فى العالم من حيث تنوع الأجناس ومن أشدها ازدحاما.
ولكن شرطة المدينة ذهبت فى توظيف هذه الاسباب إلى حد مخالفة القوانين الأمريكية ذاتها التى تحظّر على الشرطة استجواب أى شخص أو مواطن على خلفية دينية أو عقدية أو حتى سياسية؟ وكثيرا ما يجرى توقيف مواطن أمريكى مسلم واستجوابه وكأنه متهم بارتكاب جريمة وذلك على خلفية واحدة، وهو أنه مسلم.
ويتصيد رجال الأمن هؤلاء المتهمين لدى خروجهم من المساجد أو من الأندية الاجتماعية التى يلتقى فيها مسلمون. ورغم أن هذا الوضع الشاذ ينحصر فى نيويورك وحدها، الا ان معارضة بناء المساجد أصبحت ظاهرة متفشية فى معظم الولايات الأمريكية الاخرى. ويعود السبب فى ذلك إلى هجرة كثير من العائلات الاسلامية الأمريكية من المدن الكبرى إلى الضواحى والأرياف، حيث السكن والمعيشة أقل كلفة. ولدى تجمع هذه العائلات فإن أول ما تفكر به هو بناء مسجد جديد. وهنا تبدأ المشكلة.
●●●
فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى هاجرت عائلة اسلامية من مدينة بيروت إلى الولايات المتحدة هربا من الحرب الأهلية التى كانت تحرق الأخضر واليابس فى لبنان. وقد روى لى أحد أفراد هذه العائلة انه وكثير من المسلمين الآخرين المهاجرين لم يجدوا مسجدا للصلاة فى البلدة التى أقاموا فيها. وأخبرنى أن قسيسا عرض عليهم اداء صلواتهم فى كنيسة مهجورة لم يعد يرتادها المصلون المسيحيون.
فرحبوا بالعرض شاكرين. وأدوا صلواتهم الخمس بما فيها صلاة الجمعة على مدى أشهر عديدة، إلى أن خطر فى بال أحدهم ازالة الصليب المحفور على مدخل الكنيسة التى تحوّلت إلى مسجد، وذلك بحجة انه لا تجوز الصلاة فى ظل الصليب.
وحتى لا يثيروا مشكلة مع القسيس ومع أهل البلدة الآخرين، فقد عملوا على ازالة الصليب تحت ستار الليل. الا انه صودف أن القسيس كان يمر فى تلك الليلة امام الكنيسة ــ المسجد ؛ فرأى فى عتمة الليل شخصا فوق سلم خشبى ينقر بالمطرقة والازميل الصليب الحجرى المحفور على المدخل.
لم يعترض عليه ولم يعاتبه. ولكنه فى اليوم التالى استدعى المجموعة الاسلامية إلى كنيسته وقال لهم : «لماذا لم تخبرونى بالأمر قبل الإقدام على تكسير الصليب ؟.. اننى أحترم مشاعركم واستطيع أن أزيله بطريقة لا تشوه مدخل الكنيسة «. وهذا ما قام به بعد ذلك بالفعل.
●●●
لقد تغيرت أمريكا الثمانينيات من أعلى مستويات التسامح إلى حضيض الاتهام والإدانة المسبقة. ليست أمريكا وحدها مسئولة عن هذا التحول. ولا هى وحدها التى تدفع ثمنه. ان الأعمال الإرهابية التى ارتكبت ظلما باسم الاسلام تتحمل المسئولية الكبرى وتلقى على المسلمين أعباء الثمن الغالى الذى يدفعونه.