الموجة الأولى
انقطاع مؤقت (أكتوبر ٢٠١١)
الأحد ٣١ يوليو
أسرق ثلاث ساعات من الزمن لأذهب إلى حديقة أمى.
سقف البيت القديم انهار، والحاج أشرف بدأ فى وضع سقف جديد من جريد نخل يرقد على عروق الخشب القديمة. أتسلق السلم إلى السطح لأرى السقف عن قرب. يحثنى الحاج أشرف أن أمشى على الجريد، بل أن أتقافز. يقول إن الجريد أقوى من المسلح. قررنا ألا نستعمل ذرة من الأسمنت هنا. هنا النقاء كله والهدوء كله وأنا أريد أن اظل على هذا السطح إلى الأبد. لو وضعت نفسى بزاوية معينة لا أرى فى الدنيا سوى بحر من النخيل أعرف أن وراءه الأهرامات.
حين أغادر يحملوننى بالمانجة والليمون والمولوخية والنعناع والبردقوش.
الاثنين أول أغسطس وأول رمضان
أرى التغريدات فى نحو الواحدة بعد الظهر: «دبابات تتحرك من عابدين إلى باب اللوق فى الغالب متجهة إلى التحرير»، «لازم نفتح الميدان»، «لازم نفتح الميدان حالا». أتصل بصديقى الذى يسكن فى ميدان عابدين: فعلا، رأى المدرعات تتحرك من عابدين، هو فى الطريق إلى الميدان.
أصل إلى كوبرى قصر النيل وأعبره وعند الإنتركونتيننتال أجد كتيبة من الجنود تتحكم فى الطريق. نحو خمسين رجلا؛ رجال كبار الحجم منظمون، مظهرهم يوحى بأنهم قوات مسلحة وليسوا شرطة أو أمن مركزى، لكن زيهم أسود ويحملون الشوم. يحاولون إجبار السيارات على أن تمر من التحرير. يقفون فى طريق السيارات التى تريد أن تنحرف يمينا بعد الكوبرى يصدونها ويخبطون عليها ويدفعونها إلى التحرير. ثم يأمرهم أحدهم ــ ضابط ربما ــ بالسماح للسيارات أن تذهب يمينا إن أرادت.
الميدان دمار شامل. خرابة كبيرة. مزبلة. هدموا مدينتنا الصغيرة. موقعة العباسية، منذ أسبوع، كانت أول تعاون بين القوات المسلحة والداخلية والبلطجية. واليوم «بروفة» لـ«قوات مكافحة الشغب»، الاسم الجديد للأمن المركزى.
السبت أمس الأول، فى شمس الظهيرة الحارقة، وقفنا أنا ونهلة وأبو مهاب مع نحو عشرة من الشباب، وقفنا فى حيرة فى شارع قصر العينى فى منتصف الطريق بين الميدان ومكتب عمرو حلمى فى شارع مجلس الشعب. قال الشباب لا نستطيع أن نغادر طالما بقى بعض الأهالى وبعض النشطاء، لا نستطيع أن نتركهم.
لا تتركوهم. قربوا خيامكم من خيامهم وافتحوا الميدان.
عايزين نعمل ده، قالوا، لكن هناك البعض، المتشددون، يصرون على استمرار الإغلاق.
من هم هؤلاء المتشددون؟ هل ممكن نتكلم معاهم؟
أغلبهم «مستقلون» لا ينتمون إلى مجموعات، وبشكل ما أصبحوا هم المسئولون عن مداخل الميدان. بعضهم من النشطاء الذين عملوا فى الحملات المختلفة لشهور، بعضهم وجوده أحدث لكنهم عملوا بهمة وساهموا فى حماية الميدان للثلاثة اسابيع الماضية.
طيب، هل ممكن بعضكم، أو حتى، أحسن، بعض المتشددين، يأتون ويتحدثون مباشرة مع عمرو حلمي؟
قالوا إن بالنسبة للمتشددين حتى هذا الحديث يعتبر خيانة. «نرجوكم، نرجوكم، ساعدونا على أن نحتفظ بوحدتنا».
يوم الأحد استمرينا فى دبلوماسيتنا المكوكية الفاشلة، وتوجناها بثلاث ساعات عديمة الفائدة فى مكتب نائب النائب العام.
والآن الجنود يداهمون كل شبر فى الميدان. مشهد كالأفلام: جيش العدو يمر فى القرية ويترك كل شىء متساويا بالأرض. تمر القوات فتتحول الخيام والأعلام واللافتات والبانرات ــ تتحول كلها إلى زبالة. أفراد القوات المسلحة والأمن المركزى (أو الآن «مكافحة الشغب») دائمو الحركة. بعض المدنيين يحاولون التفاهم أو الاعتراض، بعض الأسر تحاول أن تعود إلى مواقعها، بعض المارة يعبرون عن تأييدهم للجيش. نرى شبابا يدفعهم الجنود نحو المدرعات ونرى جنودا يحطمون الكراسى، يحطمون أى شىء يرتفع عن مستوى الأرض، ونرى بعض الـ«متشددين» الذين منعوا الشباب من فتح الميدان يرتدون صدريات وخوذ الجيش على ملابسهم المدنية ويتحادثون بألفة مع الجنود.
شاشة سينما التحرير على الأرض، حطمها جيشنا وقطع الكابلات. أرى الشاشة على الأرض ثم أرى طفلا يسحب بطانية خلفه ويبكى. ثم أرى اطفالا آخرين؛ أطفال أمن لهم الميدان هدنة مع حياتهم القاسية، فوجدوا مأوى فى الصينية بين الخيام. أقام الشباب الثورى فصولا لمن أراد أن يتعلم القراءة أو الكتابة، تقاسموا الأكل معهم، وأشركوهم فى المسئوليات: الأطفال يفرشون الحصر على الأرض، يوصلون الأسلاك، يمسكون بالأضواء وبالكاميرات. كل هذا الآن خراب.
ألمح منى وأصدقاء آخرين على ناصية «هارديز». ألحق بهم. وصلتهم أخبار حالا عن عدد من النشطاء احتجزهم الجيش. نتحدث فى الموبايلات، ننقل إلى زملائنا من الحقوقيين وناشطى حقوق الإنسان ما رأيناه. نسمع صوتا عاليا يسأل «مين الناس دول؟ دول مصريين دول واللا إيه؟ بيكلموا مين فى التليفون؟» هناك شىء مسرحى فى الصوت ونبرته لكن الجو حولنا يتكهرب. تقول منى «طبعا مصريين!» تبدأ أصوات أخرى فى الزعيق: «هم بيعملوا إيه؟ بيعملوا إيه؟ هاتوا التليفونات!» منى ونازلى وآخرون يرفعون أصواتهم: «خليك بس ف حالك!» «مين انت؟»، «إبعد!» يدفعوننا فنجد أنفسنا مزنوقين وسط مجموعة من الرجال والكل يتدافع بالأكتاف وبالصدور ونحن أيضا ندفعهم ونرفع أصواتنا ــ ينظر إلى رجل ويصيح «وإيه دى كمان؟ بصوا شكلها عامل إزاي!» أفاجأ: «أنا؟» «أيوة إنتى. سمعتك بتشتمى!» «باشتم مين؟ قوللى شتمت مين؟» أصيح بأقصى قوة لكن صوتى ليس بالعلو الذى توقعته، أكرر وأنا أصرخ فوق التدافع والزعيق «قوللى شتمت مين؟» تتردد عيناه لحظة ثم تواجهنى تماما: «سامعك بتشتمى الشعب المصري! أيوه انتي! أنا أهه وسامعك وشاهد عليكى ــ» ينحصر عالمى فى هذا الرجل وفى هذه اللحظة، لا أعرف ولا أرى ولا أسمع أى شىء يحدث حولى، انكمش العالم فصار هو وأنا: «أنا شتمت الشعب المصرى يا حيوان يابن الـ«أسمع صوتى يصرخ ويسب وأعتقد أننى هجمت عليه ثم وجدت صدرا عسكريا فى وجهى وتكوينا من الجنود بيننا وبين الناس والجيش يخرجنا من الميدان (لمصلحتنا) ونحن نعترض «سمعتوا بيقولوا إيه؟ سمعتوا ــ».
دفعونا برفق، برفق، خارج الميدان. وفى اليوم التالى، حين حاولت أسر الشهداء ــ لا أن يعتصموا، فقط أن يفطروا فى أول رمضان فى الميدان لم يكونوا هكذا رفقاء بهم.
الثلاثاء ٢ أغسطس، منتصف الليل
فى مستشفى العجوزة نسجل شهادة عم مصطفى مرسى، ٦٢ سنة، محارب قديم فى القوات المسلحة المصرية، والد الشهيد محمد مصطفى مرسى، الذى قتلوه فى المرج بعيار نارى.
عم مصطفى مرسى راقد على ترولى. قميصه ملطخ بالدم ويرفض أن يخلعه، يقول انه سيعود إلى التحرير مرتديا هذا القميص. معه آخرون من أسر الشهداء. يؤكدون أنه ضرب، ضربه الجيش هذا المساء بعد الإفطار.
عم مرسى عنده كسر فى ضلع من الضلوع، وشرخ فى الترقوة، وكدمات فى رأسه وساقيه، ودوخة. هو يعانى من السكر، ومن ضيق النفس، ومن شظايا استقرت فى ساقه فى حرب ١٩٧٣. يتحدث بوضوح ويضطر إلى التوقف بين جملة وأخرى ليلتقط أنفاسه. يمسك بصورة ابنه يواجه بها الكاميرا أثناء شهادته:
«الجيش خد وضع الجيش فى سوريا، الجيش الظالم، أنا باقول له احنا يا ابنى مروحين، ده أنا كمان يا ابنى كنت جيش، وحضرت تلاتة وسبعين.. ألفاظ بذيئة جامدة.. كلهم.. وعلى الدماغ وعلى الصدر لما دخت ووقعت.. وخدوا صورة إبنى الشهيد من على صدرى ورموها وداسوا عليها وخدوا.. أنا عارفهم الاتنين، ضباط جيش، واحد لابس ملون وواحد لابس سادة، وعارف.. عارفهم شكلا ومش هاسيبهم، هاصطادهم إن شاء الله.. وخاصة اللى قتلوا ابنى. ده علشان باقول له أنا راجل كذا ومروح اصلا.. قال لهم قلبوه. خلاهم سرقوا منى التليفون أصبحت معاييش وسيلة اتصال بأسرتى ولا بالحاجة أم الشهيد. فعلا.. ربنا موجود.. إن شاء الله ربنا منتقم، وأنا مش هاسيبهم علشان عارف شكلهم فعلا.. ابنى دلوقتى عند العدل اللى لا بيظلم حد، وهو حرم الظلم على نفسه سبحانه وتعالى، حرم الظلم على نفسه، بس حكام مصر ونظام مصر الفاسد هو اللى بيظلم فربنا مع المظلومين إن شاء الله، يعنى أنا برضه باقول إنى فعلا عاوز أحصل ابنى، عاوز أحصله لأنه عند العدل فوق. هنا فى دنيا مصر لا فيه ــ للأسف ــ لا فيه احترام للآدمية ولا للسن ولا للبشر. خللوا.. معلش.. معلش.. هى الثورة عشان إيه؟ عشان تطهير أرض مصر، بس لسة فيها نظام فاسد. هو المشير حسين طنطاوى الله يسامحه.. ياريت ندعى له إن ربنا يهديه للسبيل، ندعى له إن ربنا يهديه لصالح مصر.. هم لو عايزين القادة والمجلس العسكرى يلموا الليلة كانوا لموها، كانوا لموها فى كلمتين: نقبض على الضباط اللى قتلوا عيالنا والقناصة، ويحاكموهم. مصر هتستقيم والعجلة تمشى، إنما هم مش عايزين يلموها، ليه؟ لأن فى ضميرهم فيه شىء. فعلا، فيه شىء. عاوزهم كل واحد يقعد مع نفسه، مع ربنا كدة، يراجع نفسه، وأتمنى إنه يراجع نفسه بالصالح.
اللى يبرد قلبى اللى هم قتلوا عيالى يتحبسوا. أنا ما اطلبش لا شقة ولا فلوس والكلام اللى هو ــ العائلات اللى يقول لك نديهم. ده مش مبدئى. أنا راجل الحمد لله وبفضله على قدى، رضا الحمد لله، وكنا عايشين أيام الظلم عادى كافيين خيرنا شرنا واللى ربنا بيبعتهولنا عايشين بيه، بس ييجى مثلا القتلة المرتشين.. أنا ابنى ربنا عالم، قبل ما يقابل ربنا عارف ربنا، بيصلى وعارف ربنا.. فى سنة ثالثة نظم ومعلومات وكان زمانه خلص. إسمه محمد مصطفى محمد مرسى. قتلوه ضباط المرج فرتكوا دماغه. أنا ما اطلبشى يا جماعة.. والله أنا فقير إلى الله والحمد لله مستورة، مستورة والله وطول عمرى آدينى داخل فى ستين سنة ومستورة، كافيين خيرنا شرنا، ما باقولشى عاوزين فلوس ولا عاوزين شقة ولا عاوزين.. ربنا عالم بكلامى إحنا عاوزين اللى قتلوا ولادنا يتحبسوا. ما نطلبشى أكتر من كدة. يعنى المرة دى الجيش خدنى غدر. أنا كنت مروح وحتى اللواء الروينى لما قابلناه قال لنا آه ده احنا نقف جنبيكم واقعدوا فى الخيام ــ ويدوبك وصلنا للرصيف لقينا الجيش جه ضرب ووقع الخيام على أمهات الشهداء. كانت بتيجى.. كنا بنفطر فقمنا نمشى لقينا الشوارع كده، قعدنا ناخد طريق كدة، يعنى واحنا رايحين على أساس نمشى قلنا قصر النيل ده فاضى بحيث نلف ونركب ستة أكتوبر ونرجع، طبعا أنا راجل مسن وماشى على القد يعنى، ومعلق صورة ابنى وماشيين إحنا ومجموعة من أسر الشهداء، طبعا لما لقوا أسر الشهداء نازلين عليا ضرب بقسوة وبغباوة دخت ووقعت وراح مقومينه.. «قلبوه»، يعنى اللفظ.. «قلبوه» مش «فتشوه»، وانا أعصابى سايبة وعندى سكر، ماهم خدوا التليفون والألفاظ.. ده فعلا اليهودى نفسه مش حيقول الألفاظ دى.. وعلى الدماغ وعلى الرجل وأهه وارمة.. كدمة، وصدرى أهه فيه شرخ من كتر الضرب على صدرى، وربنا موجود وربنا معانا إن شاء الله، إن شاء الله..».