نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب بشير الذكوانى جاء فيه ما يلى..
كيف يمكننى أن أكتب سردية عن نفسى؟ هل نحن شعوب تنتمى إلى «الإنسانية» أو أننا دخلنا حيز النسيان؟ كم هو عسير الحديث عن هذه «النحن» وتوصيفها؛ «نحن» أى بوصفنا «حشودا» لا تنتمى إلى الملة العربية إلا عرضا، أى بوصفنا كائنات انفعالية تتحدث العربية وتحاول التفكير من داخلها، ونعانى حالة من التذبذب العميق فى هويتنا. فكلما سألنا عن أنفسنا «من نحن؟» تكون الإجابة الصمت والتململ: «نحن أبناء الربيع العربى لم نعد نعلم قط من نكون»، وأكثر ما يمكننا قوله هو أننا «جيل انتقالى» «ما بعد ربيعى»؛ نحن جيل المرور «من.. إلى»، نعيش تجربة التيه الجديد، كما سبق لموسى أن فعل مع شعبه، تخترقنا ثنائية التقدم والعودة، والهوية، والتحرر، والذاكرة والنسيان.
هل نحن شعوب عاجزة عن الخروج من ذاكرتها؟ أى هل إن كل ما تفعله هذه الذاكرة هو تكرار ماضيها بطريقة مختلفة؟ كيف السبيل إلى بناء أنفسنا من جديد؟ وبأى معنى يمكن «للآخر» أن يكون جزءا من تكوين شخصيتى؟ هل يمكننا التفكير فى أنفسنا من خارج أنفسنا؟ من «المنفى»؟
ما أصاب المجتمعات العربية اليوم، هو أننا أصبحنا لاجئين داخل أوطاننا ومرحلين عنها؛ نحن لاجئون من الداخل لأننا نعانى غربة فى داخل أوطاننا. الفرد العربى دخل فى ما يسميه عالم الاجتماع الإيطالى أنطونيو نيغرى «حشود بلا معنى»، مجرد أفراد مبعثرين بهوية مشطوبة وهوية مركبة وهوية غير مكتملة وهوية خجولة.. كلها تعبيرات عن «سوق السلع» اللامتناهية التى نحيا ونعيش فى داخلها. ونحن لاجئون من الخارج لأننا لا ننتمى إلى البيت الأوروبى الأصلى.
إن ما يحدث لنا هو عملية «انتزاع» لذاكرة وصناعة لذاكرة جديدة، أى عملية تفكيك وتبديل لقطع غيار الهوية، وإعادة تركيبها وتشكيلها، كما يفعل النحات مع منحوتاته حين يزينها ويحفر فيها ويزخرفها ويتلاعب بها بين أصابعه كلما شاء ذلك. يتركها فى ظلمة ويعريها فى النور. يضعها قبالة ضوء الشمس أو يوجه لها مصباحه الاصطناعى. لكن الخاصية المميزة لهذه المنحوتة هى أنها تقف بثبات من دون اعتراض؛ بل نراها تتعرض لكل أنواع الدق والضرب والحفر عميقا فيها، من دون أن يعكر صفوها، لا الألم ولا آثار النحت التى يخلفها فيها النحات. هى ذى «الذات العربية» اليوم، التى لم تعد قادرة على التشكل من تلقاء نفسها، أى لم تعد قادرة على أن تروى لنا بنفسها عن نفسها من دون أن تستعين بالآخر الخارج عنها.
تاريخ الإنسانية هو تاريخ الألم
إن الأمر المؤكد هو أن الحضارة العربية تعيش تحت وطأة الألم والمعاناة. ومن الجيد أن نعيش تجربة الألم؛ إذ كما يقول نيتشه «تاريخ الإنسانية هو تاريخ الألم»، لكن كيف يمكن أن نوظف هذا الألم حتى نستطيع بناء أنفسنا من جديد؟
يقول بول ريكور فى كتابه الشهير «الذاكرة، التاريخ، النسيان»: «إن كل تعاسة، مهما قست، يمكننا أن نتحملها إن نحن رويناها كقصة أو أخبرنا عنها قصة». فكيف يمكن سرد قصة عن أنفسنا؟ كيف يمكن الحديث لها وعنها؟
كل قصة لا بد أن تحتوى على عنصرين جوهريين: «ذات» أو «نفس» تسرد، و«أحداث مسرودة»؛ لكن الأهم هو أن نجد الفضاء المناسب، أو بلغة هايدغر، ملجأ ومسكن إقامة نقيم فيه كينونتنا، أى أن نعثر على بيتنا الخاص.
فى مقابلة صحافية قديمة للفيلسوف الفرنسى غاستون باشلار (1884 ــ 1962) يسأل الصحافى بشلار عن تصوره للبيت، وكيف يجب أن يكون، فيجيب قائلا: « بالنسبة إلى البيت يجب أن يمتاز ببعض العمودية.. البيت يحتاج، على الأقل، قبوا وعلية، وبالطبع كل ما بينهما».
إن ما يثير هنا هو عملية الصعود والنزول بين القبو، الذى يجب أن يكون بحسب باشلار «كهفا حقيقيا وليس حضاريا ذا معدات كهربائية». والعلية، هى هذه العملية الارتدادية إلى الخلف، والتى تعود فيها «الذات إلى الذاكرة بوصفها تعبيرا عن إرث حضارة ما تشكل ماضيها، وكذلك هى عملية صعود «نحو» أو «إلى» تخرج من النفس وتتجاوزها. إنها بحث عن إمكانية جديدة للخلق؛ لكن هذه الحركة العمودية «من فوق إلى تحت» و«من تحت إلى فوق» تتطلب، كما يصرح باشلار، نوعا من الشجاعة الخاصة، لأن فى النزول عودة إلى الظلمة، عودة إلى الأسفل، على عكس العلية: «عليك أن تكون رجلا شجاعا عندما تذهب إلى الأسفل؛ لكن الأمر مختلف عند الذهاب إلى العلية».
هذا الأمر مماثل للإقامة فى الذاكرة والخروج منها نحو تصور براديغم جديد. الكهف أو القبو يشير رمزيا إلى الحدود، إلى الانغلاق، والعلية تشير إلى نوع من الظهور والإعلان عن نفسها؛ إنها الحضور والانكشاف بلغة هايدغر.
يذكرنا هذا التصور للبيت بأمثولة الكهف لأفلاطون، نحن اليوم نسخة عن هؤلاء السجناء داخل الكهف، الذين لا يمكنهم تحريك أجسادهم ورؤية الأشياء؛ فكل ما يحدث داخل هذا الكهف هو تصديق للظلال المرسومة على الجدار، بحيث لم يستطع هؤلاء السجناء الخروج من منطقة «الاعتقاد». ولا شك أن الخروج ليس بالعملية اليسيرة، ويمكن أن يطرح بهذه الطريقة: كيف يمكن أن أتخلى عن نفسى من أجل أن أجد نفسى؟
يعبر نيتشه عن هذه الحالة بطريقة جميلة معلنا أن لا أحد فينا يريد أن يتجاوز ذاته. ولكن ماذا يعنى أن نتجاوز ذواتنا؟ هل يمكن لتجربة النسيان أن تجعلنى أتجاوز ذاتى؟
يقول ريكور ما يلى: «أنا أستطيع أن أتذكر، وأن أسجل ذكرياتى وشهادتى، وأن أقيم تاريخا يمثل حقيقة الماضى، وأن أستعيد لذاكرتى هذا التاريخ بكل ما فيه من نور ومن مناطق مظلمة، غير أنى أستطيع أن أنسى، بل إن من طبيعة الوضع البشرى أن ينسى».
النسيان هو أيضا جزء من تركيبتنا البشرية، والنسيان هنا يأخذ معنى «الغفران لذات». يمكنك أن تتصالح مع نفسك، أن تحاول الخروج من حالة القصور الذهنى وأن تتجرأ على التغيير بنفسك، لكن لا يجدر بنا فهم النسيان على أنه ترك ونزع كلى لذاكرة ما والتجرد منها. فكل شعب لا يحمل ذاكرة، يعانى من حالة شتات ولجوء، ولا يقدر أن يجد لنفسه موقعا يتموضع فى داخله. كل شعب بلا ذاكرة، هو شعب منفى ومطرود من مجال التأسيس. لكن لا بد أن نفهم النسيان على أنه مصالحة بين الحاضر والماضى؛ فنحن لا نعيش حالة تقوقع داخل أنفسنا من دون الخروج على العالم والانكشاف عليه، ولا نعيش حالة تتجرد فيها الذات من كل أسسها.
يقول باشلار: «ليس من المريح أن تكون نفسك. لذا أنا أفهم كيف يمكن لأحد أن يقارن نفسه بالآخرين»، إذا أردت أن تكون نفسك فعليك أن تتأقلم. عليك أن تجد وسيلة للحياة، أن تتوقف على عدم التفكير بنفسك، إننا اليوم نعيش حالة عطالة. نحن فى حالة توقف، كما يقول فوكو عن الرسام فى لوحة «الوصيفات» لفيلاسكاز. كل ما علينا فعله هو الإفلات من يد النحات ومحاولة الحركة. فعلى حد تعبير باشلار: «عندما أفكر أحيانا فى أننى لم أغادر هذا المنزل لشهر، أعرف كم أن الحياة تغيرت (...) ولكن عليك أن تتغير فأنت لا تريد أن تفعل ما لا تقدر عليه».
ماذا يعنى أن أتغير؟ أن أوجد خارج نفسى؟ أن أصنع سرديتى وأكتب قصتى من «المنفى»؟
يقول محمود درويش: «وأنا الغريب بكل ما أوتيت من لغتى. ولو أخضعت عاطفتى بحرف الضاد، تخضعنى بحرف الياء عاطفتى، وللكلمات وهى بعيدة أرض تجاور كوكبا أعلى. وللكلمات وهى قريبة: منفى. ولا يكفى الكتاب لكى أقول وجدت نفسى حاضرا ملْء الغياب وكلما فتشت عن نفسى وجدت الآخرين. وكلما فتشت عنهم لم أجد سوى نفسى الغريبة، هل أنا الفرد الحشود؟».
يكتب درويش ههنا من المنفى. فهو لم يعد هوية واحدة، بل أصبح الغياب يعوض الحضور. فكلما تسأل عن نفسه إلا وكان الآخر حاضرا معلنا وجوده الصارخ داخلنا، وكلما تسألنا من هو هذا الآخر الغريب عنا، وجدنا آخرين، وكلما فتشت لم أجد سوى نفسى الغريبة.
إن الوقوف فى مركز الأشياء يمنعنا من رؤية كل الأشياء. هى تحيط بنا، تخنقنا ولا تفسح لنا المجال لنفكر فيها. فى مغادرة أنفسنا والتخرج منها قد نستطيع أن ندركها. فالوقوف على الهامش والمخفى والغائب يجعلنا نفكر على نمط مختلف فى الآخر وفى أنفسنا. يبقى السؤال المطروح هو: إلى أى حد يمكن أن أعايش المنفى؟ بمعنى إلى أى مدى يمكن أن نتقبل الآخر بكل ما يحمله من اختلاف؟
قد نعثر على الإجابة فى قول باشلار فى كتابه جماليات المكان: «إن البيت الذى ولدنا فيه محفور بشكل مادى فى داخلنا. إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية. بعد مرور عشرين عاما؛ وعلى الرغم من السلالم الكثيرة التى سرنا فوقها، فإننا نستعيد استجاباتنا للسلم الأول. فلن نتعثر بتلك الدرجة العالية بعض الشىء. إن الوجود الكلى للبيت سوف ينفتح بأمانة لوجودنا، سوف ندفع الباب الذى يصدر صريرا بنفس الحركة، كما نستطيع أن نجد طريقنا فى الظلام إلى حجرة السطح البعيدة. إن ملمس أصغر ترباس يظل باقيا فى يدينا».
النص الأصلى