نشرت مبادرة الإصلاح العربى ورقة بحثية للباحثة «عفيفة المناعى» تتناول فيها دور الحركة الحقوقية فى تونس فى التأثير على التشريعات والممارسات، كما تحاول تمييز تحولها من رصد الانتهاكات والتنديد بها قبل ثورة يناير 2011 إلى المشاركة فى وضع تعديلات قانونية وإصلاحات فى السياسات يمكن معها التقليل من هذه الانتهاكات.
أولا: مطالب الحركة الحقوقية
فى البداية تتحدث الباحثة عن أن هناك أربعة مطالب محددة للحركة الحقوقية وهى: حقوق المرأة، ووقف التعذيب، وتكريس الضمانات الحقوقية للمتهم، وإلغاء عقوبة الإعدام، ومدى نجاحها فى إحداث تأثير فعلى فى هذا المضمار. ولم تكن هذه المطالب كلها وليدة فترة ما بعد الثورة فلطالما تمت المطالبة بها من طرف الحركة الحقوقية التونسية، لكن هذه الجهود تزايدت مع ما شهدته تونس من تكريس للحريات، كما أن الخطاب الرسمى تخلى نسبيا بعد الثورة عن الارتكاز على المكتسبات التشريعية من أيام بورقيبة، بالنظر إلى تغيرات متلاحقة فى المشهد السياسى ولا سيما على صعيد كبار السياسيين التنفيذيين فى حكومات عدة متعاقبة.
حقوق النساء
احتلت مسألة المحافظة على مكتسبات حقوق المرأة والسعى إلى الظفر بالمزيد منها موقعا مهما فى صميم عملية الانتقال السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى تونس، البلد الذى طالما تم تصنيفه على رأس الدول العربية الأكثر تقدما فى مجال حقوق المرأة. ويعزى هذا التقدم أولا إلى الإرث التشريعى التقدمى الذى حصلت عليه المرأة منذ أيام بورقيبة؛ المتمثل فى مجلة الأحوال الشخصية التى ألغت تعدد الزوجات، واعتبرت الزواج من ثانية جنحة يعاقب عليها بالسجن والغرامة أو بإحدى العقوبتين، وحددت سن الزواج، وكرست الموافقة المباشرة والحرة للزواج، ومنعت الزواج العرفى.
كما يعزى هذا التقدم ثانيا إلى جهود بعض الفاعلين الحقوقيين مع وجود عدد من الجمعيات التونسية التى عملت كثيرا على هذا المطلب، ومن أهمهم الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات التى سعت إلى المطالبة بدسترة حقوق النساء منذ 2012. وتحقق هذا المطلب فى دستور 2014 بعد معركة طويلة خاضتها الجمعيات والأحزاب المؤيدة لحقوق المرأة، وقد أفسح هذا المجال للمرأة فى مرحلة لاحقة للترشح للانتخابات الرئاسية، فتقدمت تونسيتان لسباق الرئاسة وهما السيدة آمنة القروى والسيدة كلثوم كنو.
وفى رد فعل على ما اُعتبر انتكاسة لحقوق النساء تعالت أصوات منادية بالمساواة التامة والفعلية بينهما، فاعتبار المرأة مكملة للرجل ينفى عنها استقلاليتها فتصبح فى حالة تبعية للرجل بعد أن كانت على قدم المساواة معه.
وتلا ذلك نجاح آخر وهو رفع تونس لتحفظاتها على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. وفى المقابل أكدت الحكومة، فى تناقض واضح، أن هذا الرفع لا يمكن أن يؤدى إلى إقرار قوانين وتشريعات من شأنها مخالفة الدستور، وهو ما يغلف بالغموض مدى جدوى رفع التحفظات، وما هى بالضبط المواد الدستورية التى تقف حائلا دون رفع كل أشكال التمييز ضد المرأة.
وعلى الرغم من كل هذا يظل العنف القائم على أساس الجندر مظهرا قائما فى المجتمع التونسى، ويظل شاغلا أساسيا للحركات الحقوقية والنسوية التى تناضل ضد هذا العنف بكل صوره. وقد وصلت نسبة النساء اللواتى تعرضن إلى العنف فى الفضاء العام فى تونس بين 2011 ــ 2015 إلى 53.3%.. وفى هذا الإطار فإنه من الضرورى التذكير بأنه «من الشائع ارتفاع العنف ضد النساء فى فترات الأزمات» وربما لم تشذ تونس عن تلك القَاعدة.
وهكذا على الرغم مما ضمنته المرأة التونسية من حقوق فى التشريعات قبل الثورة وبعدها، وعلى الرغم من التقدم الذى أحرزته فى هذا المجال بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى إلا أنها ما تزال تتعرض إلى التمييز السلبى على أساس النوع الاجتماعى، انطلاقا من مكان عملها فيما يتعلق بالأجور فى بعض القطاعات وصولا إلى ما تتعرض له من عنف فى الشوارع وداخل الأسرة.
قطيعة مع التعذيب
انتظرت تونس قيام الثورة لتصادق على البروتوكول الاختيارى لمناهضة التعذيب فى يوليو 2011. ويلزم هذا البرتوكول الدول المنضوية تحته بإحداث آلية وطنية للوقاية من التعذيب تكون لها ضمانات الاستقلالية والحياد، وهو ما فعلته تونس بإنشاء هيئة عمومية مستقلة، تدعى الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب فى 21 أكتوبر 2013. وتأخر انتخاب أعضاء الهيئة. وقد لمح رئيس اللجنة الانتخابية فى تصريح له عن «وجود رغبة لدى بعض النواب المتغيبين فى عدم إحداث الهيئة لا سيَما فى ظل حديث بعضهم عن الاكتفاء بهيئة حقوق الإنسان فقط، عوضا عن هيئة الوقاية من التعذيب». ولضمان استقلالية الهيئة عن الضغوطات السياسية اشترط القانون ألا يكون الأعضاء برلمانيين أو لهم مسئوليات سياسية، وعهد للهيئة مهام رصد ورقابة مختلف مراكز الاحتجاز وتأدية زيارات دون سابق إعلام، ولها أن تتلقى الشكاوى من المتضررين.
وكانت تونس من بين الدول التى صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التى تم اعتمادها من جانب المفوضية السامية للأمم المتحدة منذ 10 ديسمبر 1984. ويعود تأخر تونس فى المصادقة على البروتوكول الاختيارى لمناهضة التعذيب إلى اتخاذ نظام بن على قرارا بعدم تقديم أى تقرير حول التعذيب أمام لجنة مناهضة التعذيب، على الرغم من أن الاتفاقية تلزم الدولة بتقديم تقرير دورى كل 4 سنوات.
وعلى الرغم من هذا التطور، تبقى رغبة السلطة السياسية فى القطيعة مع التعذيب على أهميتها مقيدة ومكبلة بالنصوص التشريعية حيث عجز الفاعلون الحقوقيون عن إحداث تغيير فى النصوص القانونية التى تحكم عمل الأجهزة الأمنية. وأكدت منظمة العفو الدولية فى مذكرة إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة فى 2016 أن التعذيب لا يزال موجودا فى تونس. ومن المرجح استمرار ممارسات التعذيب داخل الأجهزة الأمنية التى لم تمر بمرحلة إعادة هيكلة، إلا أن الفرق المهم فيما يبدو هو أن التعذيب لم يعد سياسة منهجية من جانب الدولة.
وتواصل الحركة الحقوقية التحرى وجمع المعلومات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان بما فيها التعذيب، ونشرها من أجل ممارسة الضغط على السلطات.
تكريس الضمانات الحقوقية للمتهم
مع دخول القانون المتعلق بتنقيح وإتمام بعض أحكام مجلة الإجراءات الجزائية حيز التنفيذ، بدأت تونس عهدا جديدا من المساءلة والمحاسبة؛ حيث أقر هذا القانون بإمكانية حضور المحامى لدى باحث البداية. ومن أهم النقاط التى جاء بها القانون أن من حق المحامى الحضور مع أى متضرر أو مشتبه به فى أى جريمة كما أن له الحق فى زيارة موكله المحتفظ به مرة واحدة فى كل مدة احتفاظ لا تتجاوز 30 دقيقة وعلى انفراد، ويتوافر للمحامى وسائل دفاع مضمونة بالنص؛ منها إمكانية طلب تدوين ملاحظاته فى المحضر وعند الامتناع يمكن للمحامى القيام بهذا بنفسه عند التوقيع على المحضر، كما أن له أيضا إمكانية طلب عرض موكله على الفحص الطبى لمعاينة آثار التعذيب فى أثناء المحاكمة.
وعلى الرغم من أن الحركة الحقوقية لم تنجح بعد فى مساعيها من أجل إعادة بناء القطاع الأمنى وتكريس الممارسات الجديدة وترسيخها، فقد مر القطاع الأمنى بعدة إصلاحات فى الأعوام الخمسة التالية.
ونتج عن وجود تهديدات وعمليات إرهابية فى تونس بعض التبريرات من جانب أجهزة أمنية لممارسات قد تنتهك حقوق الإنسان، الأمر الذى يرفضه الفاعلون الحقوقيون الملتزمون بحقوق المتهم بغض النظر عن التهم أو الشبهات المحيطة به.
إلغاء عقوبة الإعدام
وتضيف الباحثة أنه على الرغم من أن تنفيذ عقوبة الإعدام مجمد فى تونس منذ آخر حكم تم تنفيذه فى 1991، ومن أن تونس وقعت فى 21 ديسمبر 2012 على توصية الجلسة العامة لمنظمة الأمم المتحدة المتعلقة بوقف تنفيذ هذه العقوبة، فإن المحاكم التونسية تواصل إصدار أحكام الإعدام تطبيقا للقوانين السارية. وتصدر المحاكم التونسية أحكاما بالإعدام، إلا أن رئيس الدولة يمتنع عن التوقيع على التنفيذ، وهو ما يمنع تنفيذ الحكم نهائيا. لكن عدم التنفيذ الفعلى لهذه العقوبة لا يمنع المحاكم الجزائية من إصدار هذه الأحكام، وهو ما أكده وزير العدل وحقوق الإنسان فى نظام بن على فى عام 2008. وتبعا لذلك يبقى المحكوم عليه بالإعدام فى السجن دون أن يكون له الحق فى الزيارة. لكن بعد الثورة قررت وزارة العدل رفع حظر الزيارات عن المساجين المحكوم عليهم بالإعدام.
ولم تنج مطالبات منظمات حقوقية بإلغاء العقوبة ومن ضمنها الفرع التونسى لمنظمة العفو الدولية والمعهد العربى لحقوق الإنسان والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وهناك بالفعل تجمع منذ 14 يونيو 2007 يُدعى الائتلاف الوطنى التونسى لإلغاء عقوبة الإعدام؛ وهو تحالف يجمع سبع منظمات مستقلة؛ ويضم الائتلاف أكثر من 100 شخصية وطنية تونسية مشهود لها بدفاعها عن حقوق الإنسان، وتضم محامين وسينمائيين وإعلاميين ومسرحيين ووزراء سابقين. ويجمع هذا الائتلاف العديد من الفاعلين الهادفين إلى إلغاء هذه العقوبة وحشد الرأى العام ضدها وعضويته مفتوحة لجميع المنظمات المستقلة والأفراد.
ثانيا: توسيع نطاق وآليات الدفاع عن المطالب الحقوقية
صعدت فى تونس إثر الثورة موجة جديدة من الحركات الحقوقية بعد أن كان الركود إن لم يكن التراجع يميز المشهد السياسى والحقوقى على مدى عقود. وأفرزت هذه الموجة جمعيات حقوقية وفاعلين جددا فى المجتمع المدنى أو تجمعات وشبكات خارجة عن الأطر الحاضنة والتنظيمية المعتادة على شاكلة الجمعيات والأحزاب والنقابات. وأنتجت هذه الموجة من المطالبات الحقوقية ضغوطا من الأسفل إلى الأعلى، وأزعجت السلطات والمؤسسات الرسمية، بل وعرقلت أجنداتها.
ختاما تضيف الباحثة أنه لا شك فى أن الثورة فتحت الباب أمام استخدام وسائل غير معتادة أو الدفاع عن قضايا وحقوق كانت فى ذيل اهتمامات الفاعلين الحقوقيين التقليديين، أو حتى خارج نطاق اهتمامهم تماما وفتحت الثورة أيضا المجال أمام تنظيم أفعال حقوقية حول قضية واحدة. ولم تقتصر الحركات الحقوقية على الدفاع عن الأفراد بل تعدتها إلى الدفاع عن مناطق بعينها أو محافظات برمتها. وعلى صعيد آخر تزايد الاهتمام بدور المنظمات الحقوقية فى تقديم التقارير للمنظمات الدولية.
النص الأصلى: