نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب محمود الذوادى.. يتحدث فيها عن أهمية اللغة والدين فى العالم العربى، كعنصرين أساسين، أدَّيا إلى تجانسه وقيام وحدة ثقافية قوية، وسيؤدى إلى استمرار الترابط العربى.
يدعو الوضعُ السيئ فى المنطقة العربيّة إلى تشاؤم الكثيرين بالنسبة إلى مستقبل الأمّة العربيّة نفسها. لكنّ التحليل المَنهجيّ لا يُبايع تلك الرؤية السطحيّة المتسرِّعة والجاهلة بعمق طبيعة الأشياء. لقد كُتب الكثير عن العالَم العربيّ كمجموعة من الأقطار المستقلّة عن بعضها البعض فى العصر الحديث، لكونها مُختلفة على أكثر من صعيد.
فعلى مستوى تعرُّضها للهَيمنة الاستعماريّة الغربيّة، وقع احتلال معظم المجتمعات العربيّة فى المشرق العربى من طرف الاستعمار البريطانى، بينما استعمرت فرنسا بلدان المغرب العربى. أمّا اختلاف الأقطار العربيّة على مستوى أنظمة الحُكم، فحدِّثْ ولا حرج. وينقسم الوطن العربى إلى مجتمعات غنيّة وأخرى فقيرة أو متوسّطة الدخل. لكنّ المجتمعات العربيّة متجانسة على مستوى أهمّ عناصر المنظومة الثقافيّة ألا وهُما: اللّغة والدّين.
اللّغة العربيّة هى اللّغة الرسميّة لكلّ هذه المجتمعات، وهى أيضا المصدر الرئيسى للّهجات العربيّة العاميّة، بحيث تجعل التواصل بين مُواطنى الشعوب العربيّة أمرا سهلا. أمّا دين أغلبيّة سكّان العالَم العربى، فهو الإسلام. يرى المختصّون فى العلوم الاجتماعيّة الحديثة أنّ عامليْ اللّغة والدّين هُما أكثر العوامل المحدِّدة للهويّة الثقافيّة للشعوب. وبالتالى، فثقافة الوطن العربى هى ثقافة عربيّة إسلاميّة فى الصميم توحِّد بين الأقطار العربيّة من الخليج إلى المحيط، أى أنّ رمزَيْ اللّغة والدّين وثقافتهما التى تشترك فيها المجتمعات العربيّة تؤسِّس بينها تلقائيّا وحدة ثقافيّة قويّة سابقة للوحدة السياسيّة الهشّة، التى لطالما نادى وينادى بها العرب الوحدويّون فى العصر الحديث. فالوطن العربى له بهذا الاعتبار أهمّ العوامل التى تؤهِّله ليكون أمّة بالمعنى الكامل للكلمة.
وفى رأى الباحثين فى شئون الأُمم والشعوب، فإنّ اشتراك مُجتمعات عديدة فى لغة واحدة عاملٌ حاسِم فى تكوين أمّة. ويأتى اشتراك أغلبيّة سكّان الأقطار العربيّة فى الدّين الإسلامى ليُعزِّز، من جهة، حقيقة وجود أمّة عربيّة إسلاميّة فى الفضاء الجغرافى بين الخليج والمحيط. ومن جهة أخرى، يزيد الاشتراك فى اللّغة العربيّة بين الشعوب العربيّة فى قوّة التضامُن بين المجتمعات العربيّة المكوِّنة لهذه الأمّة. فالملاحظات المتكرّرة تفيد بأنّ الأغلبيّة الساحقة من المواطنين العرب المُسلمين يظهرون بطريقة عفويّة اللّا شعوريّة تعاطُفا أكبر مع الشعب الفلسطينى المُكافِح مُقارنةً بتعاطفهم مع الشعوب المُسلمة الأخرى المُكافِحة فى البوسنة والهرسك وفى الشيشان والفلبّين وكشمير. فالتحليل السوسيولوجى لهذه الظاهرة يشير إلى مدى أهميّة دَور اشتراك الناس فى لغة واحدة فى زيادة درجة التعاطُف والتضامن بينهم. وبالتعبير الخلدونى، فعامِلا اللّغة والدّين هُما أقوى عناصر منظومة الرموز الثقافيّة فى تشكيل صلابة العصبيّة/ التضامن بين الناس. فميلاد الأمّة العربيّة هو حصيلة اشتراك معظم مواطنيها فى اللّغة العربيّة والعقيدة الإسلاميّة. ويبقى هذان الرمزان الثقافيّان مصدر تضامنها على مرّ العصور.
سياسة الإعاقة للّغة
إنّ ركيزتَى الوحدة العربيّة ليستا بخير فى الوطن العربى. يجوز القول إنّ الإسلام يشهد مشكلات فى كثير من المجتمعات العربيّة على مستويَين: السياسى والنخبوى. فانتشر وباء الطائفيّة الدينيّة، وبخاصّة فى المشرق العربى، وصاحبت ذلك موجات الإرهاب بأنواعها البشعة المختلفة. وهو وضع أعاق الإسلام من دَوره الحاسم فى توحيد العرب الذى تحدَّث عنه ابن خلدون فى أنّ «العرب لا يحصل لهم الملك إلّا بصبغة دينيّة».
أمّا على المستوى النخبوى، فإنّ الكثيرين من المثقّفين العرب لا يملكون علاقة ودّ مع الإسلام بسبب اغترابهم عن اللّغة العربيّة والثقافة الإسلاميّة. لقد نبَّه ابن خلدون منذ أكثر من ستّة قرون إلى مغبّة مشكلة الاغتراب الثقافى. فدعا بصوتٍ عالٍ فى «المقدّمة»، إلى ضرورة محافظة المثقّفين المسلمين على حصانتهم الثقافيّة والفكريّة فى رباط الثقافة الإسلاميّة. يكفى هنا ذكر تحذير ابن خلدون من مَخاطر معرفة ثقافة الآخر وفكره قبل تحصين الذّات فى ثقافتها وفكرها. يتحدّث ابن خلدون عن الفلسفة اليونانيّة التى كانت ذات أثر كبير على فكر الكثير من فلاسفة المُسلمين ومفكّريهم فيقول: «فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها، وليكن مَن ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيّات والاطّلاع على التفسير والفقه، ولا يُكِبَّنَّ أحد عليها وهو خلو من علوم الملّة فقَلَّ أن يسلم لذلك من مَعاطبها».. ومنه، يجوز القول إنّ كثيرا من المثقّفين العرب يشكون اليوم من مَعاطب فى ثقافتهم الوطنيّة (الثقافة العربيّة الإسلاميّة). والأمثلة تكاد لا تحصى. مثلا، فإنّ قسما كبيرا من الجامعيّين العرب فى الفلسفة وعِلم الاجتماع والتاريخ يملكون زادا ثقافيّا غربيّا فى تلك التخصّصات أكبر من نظيره العربى الإسلامى. وبالتعبير الخلدونى فهُم خالون كثيرا من رصيدٍ معرفى من الثقافة العربيّة الإسلاميّة فى تلك المَيادين. وفى المقابل، فإنّ مثقّفى المجتمعات فى الشرق والغرب لهم عادة علاقة سليمة مع ثقافاتهم الوطنيّة؛ أى أنّ تكوينهم فى الثقافة الأمّ (لغةً وفكرا) هو أولويّة الأولويّات قبل أيّ ثقافة أجنبيّة.
أمّا بالنسبة إلى اللّغة العربيّة، الركيزة الأولى لوحدة جميع العرب، فوضْعها بائس فى المجتمعات العربيّة التى تتبنّى ما يُمكن تسميته «بسياسة الإعاقة للّغة العربيّة»، وذلك بعدم استعمالها فى الحياة اليوميّة حتّى فى أبسط الأشياء. فاللّغة كائن حيّ يتطوّر ويبلغ أقصى رشده بالاستعمال الطبيعى فى كلّ مجالات الحياة الخاصّة والعامّة. وفى المقابل، تُصاب اللّغة بالإعاقة إنْ هى لم تُستعمل بالكامل من طرف أهلها. ومن اللّافت بهذا الصدد أنّ المجتمعات المجاورة للوطن العربى مثل إيران وتركيا وإسرائيل تدرِّس العلوم بلغاتها فى جامعاتها، بينما تستعمل معظم الجامعات العربيّة لغات أجنبيّة لتدريس العلوم. وهو استثناء عربى معيق لقيام نهضة علميّة عربيّة حقيقيّة. فالحرص على تنفيذ سياسة التعريب الكامل فى المجتمعات العربيّة لا يخدم تطبيع العلاقة مع اللّغة العربيّة فحسب، وإنّما يخدم أيضا نهضة العِلم فى تلك المجتمعات، لأنّ النهضة العلميّة تحتاج إلى ما يسمّى البيئة المُنتِجة للعِلم؛ أى أنّ البيئة الاجتماعيّة المُسانِدة لإنتاج العِلم هى تلك التى ينتشر فيها العِلم بين عامّة الناس ولا يقتصر على النخبة فحسب.. فالعِلم يصبح ظاهرة اجتماعيّة واسعة لَمّا ينسجم العِلم مع الثقافة العامّة للمجتمعات ويتفاعل معها أفقيّا. فوظيفة اللّغات فى نشْر ثقافة العِلم فى كامل المجتمعات تتوقَّف كثيرا على مدى انفتاح الثقافة العامّة للمجتمعات على العِلم. ويصعب جدّا تحقيق ذلك ما لم تكُن لغة العِلم والثقافة العامّة لغة واحدة. ومن ثمّ، لا يتمّ طموح المجتمعات العربيّة إلى كسب رهان النهضة العِلميّة الأصيلة إلّا بتوحيد لغة المُجتمعات العربيّة مع لغة العِلم، أى تدريس العلوم وإنتاجها باللّغة القوميّة/العربيّة. فالنهضات العِلميّة البارزة فى اليابان والصين وكوريا الجنوبيّة شاهدة اليوم على صدقيّة أثر توحيد لغات المجتمعات مع لغات العِلم فى تحقيق النهضة العلميّة؛ إذ تمَّت تلك النهضات العِلميّة وتتمّ فى تلك المجتمعات الآسيويّة فى أحضان لغاتها الوطنيّة.
أمّة الرموز الثقافيّة بامتياز
هكذا يتجلّى أنّ الأمة العربيّة هى أمّة منظومة رموز ثقافيّة فى المقام الأوّل؛ حيث لا يأبه تأثيرها فى التعاطف والتضامن بين الناس كثيرا بالعراقيل الماديّة التى قد تقوم بين هؤلاء مثل الحدود الجغرافيّة والسياسيّة بين الأقطار. وبامتلاكها سرّا سحريّا ما، تقدر الرموز الثقافيّة على تجاوُز عوائق المعطيات الماديّة الفاصلة بين الشعوب وتمكينها من التواصل والتضامُن كأنّ شيئا لم يكُن بينها من تلك العراقيل. وبطبيعتها الفطريّة، تتّصف الرموز الثقافيّة بمدى بقائها طويلا حدّا قد يصل إلى الخلود. فانتشار اللّغة العربيّة والعقيدة الإسلاميّة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا فى ما يسمّى اليوم بالعالَم العربى، مثالان على تأهُّل الرموز الثقافيّة للبقاء الطويل الذى يُقاس بالقرون وبآلاف السنين. ومن ثمّ، فالتضامن العربى ثقافيّا هو تضامن طويل النفس عبر العصور قد يصل إلى أبد الآبدين؛ إذ يصعب تخيُّل زوال اللّغة العربيّة، لغة القرآن الكريم وكِتاب المُسلمين المقدَّس، داخل الوطن العربى وخارجه.
فهذا التضامن الثقافى العربى الوثيق العرى عبر اللّغة والعقيدة مؤهَّل للاستمرار ربّما إلى أجل غير مسمّى؛ ذلك أنّ مربط فرس هذا التضامن هو منظومة الرموز الثقافيّة الحمّالة لراية روابط بين البشر أكثر صلابة وأطول عُمرا. فجوهر هذا التضامن يختلف عن تحالفات الشعوب اقتصاديّا وسياسيّا وعسكريّا التى تكون عادةً تحالفات ظرفيّة قصيرة العمر، كما يشير إلى ذلك قرار إنجلترا فى العام 2016 القاضى بالخروج من منظومة الاتّحاد الأوروبى.
النص الأصلي