المتابع لردود الأفعال العالمية على وقوع ونجاح وتطور أحداث ثورة مصر لا يسعه إلا أن يتعجب من رغبة العالم، خاصة الغربى منه، فى عدم فهم وعدم احترام طبيعة وخصوصية «ثورة مصر».
قامت الثورة فى مصر على الرغم من خلو كل تقارير ودراسات أهم مراكز الأبحاث العالمية من هذا الاحتمال، ناهيك عن رؤية ساسة العالم للنظام المصرى السابق كحليف قوى مخلص يدعم الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط.
ومنذ بداية تظاهرات الثورة يوم 25 يناير، اتخذت القوى الكبرى والدول الشقيقة بلا استثناء موقفا متحفظا إما بدعوة النظام السابق لمنح شعبه المزيد من الحريات واتخاذ خطوات فى سبيل إصلاح سياسى مقبول، أو اختارت أن تلتزم الصمت انتظارا لما ستسفر عنه تطورات الأحداث.
ومن حسن حظ ثورتنا المصرية عدم وجود أى حليف خارجى سواء كان أمريكيا أو أوروبيا أو حتى عربيا مسلما. ولهذا السبب تحديدا لا تدين ثورتنا لأى قوة خارجية أو لأى مؤسسة دولية بأى شىء.
وجاء بدء محاكمة الرئيس السابق الأسبوع الماضى، وردود الأفعال العالمية عليها دليلا جديدا على عدم استيعاب ما يجرى داخل مصر. فقد بادر السيناتور الأمريكى جون ماكين، وهو مرشح رئاسى جمهورى سابق من ولاية أريزونا إلى رفض محاكمة مبارك، وقال «من الأفضل أن يتصالح الشعب المصرى مع مبارك، وذلك لأن محاكمته لن تعطى نتيجة مقبولة للديكتاتوريين فى المنطقة العربية»
وهكذا لم يخف ماكين عدم اهتمامه بضرورة تحقيق العدالة ومحاسبة المسئولين عن قتل أكثر من 900 متظاهر سلمى مصرى.
كذلك خرج كاتب صحيفة واشنطن بوست، جاكسون دييل، الذى طالما نادى بضرورة الإصلاح السياسى فى مصر، مبشرا بمحاكمة غير عادلة للرئيس السابق، ومؤكدا أن المحاكمة تجرى فى ظروف غير مناسبة، وأن مصر غير مؤهلة بعد لمثل هذه المحاكمات.
أما صحيفة الديلى تليجراف البريطانية فقد شبهت محاكمة مبارك بمحاكم النظام السوفييتى السابق، وحذرت الصحيفة الغرب من أن «مصر مبارك التى كانت حليفا علمانيا معتدلا للغرب لم يعد لها وجود، وعلينا أن نتعود على مصر غير حليفة، غير معتدلة، غير علمانية».
ولا تمثل مناسبة المحاكمة سابقة جديدة، فقد بدأ التشكيك العالمى فيما تقدم عليه ثورة مصر حتى قبل إسقاط النظام السابق. وبعد تنحى الرئيس مبارك ظهرت توجهات عالمية تريد لثورة مصر أن تسلك طرقا محددة بينما كان الشعب المصرى يستعد لقول رأيه فى قضية الاستفتاء الدستورى، ثم دب الخوف فى قلوب الكثيرين عندما سمح للقوى السياسية المصرية بحرية تشكيل أحزاب سياسية، ثم انتقدت آخرون توقيت إجراء الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها لاحقا هذا العام.
لم يستوعب العالم ديناميكيات الحياة السياسية المصرية الجديدة، فتارة نشهد حملة تخويف من احتمال استيلاء جماعة الإخوان المسلمين على الثورة وسط مساع لمنظمات اللوبى الإسرائيلى لحث الإدارة الأمريكية على الضغط على المجلس العسكرى المصرى لإثنائه عن تمرير قوانين انتخابية قد تسمح بوصول إسلاميين للحكم فى مصر، وتارة ينال التخويف من احتمال خطف السلفيين للثورة حيزا كبيرا من الاهتمام العالمى خاصة بعد مظاهرات يوم الجمعة 26 يوليو، والتى أظهرت السلفيين كقوة سياسية يعتد بها خلال الانتخابات البرلمانية المقررة فى نوفمبر المقبل.
أما التخويف من سيطرة العسكريين واحتمال عدم سماح المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيام ديمقراطية حقيقية بما تتضمنه من إجراء انتخابات حرة ونزيه ومتكررة، فهو عملية بدأت ولا زالت مستمرة حتى منذ قبل سقوط النظام السابق. وتعتقد تلك الأصوات أن الجيش المصرى الذى حكم مصر منذ 1952 سيستمر فى السيطرة على الحكم حتى بعد نجاح الثورة.
العالم يريد أن تتبنى ثورة مصر تجارب دول أخرى، البعض يريد أن نسلك المسار التركى خاصة فيما آلت إليه العلاقات العسكرية المدنية، وما تتضمنه من حكم رشيد للإسلاميين، ويستشهدون بنجاح حزب العدالة والتنمية فى تحقيق التنمية والديمقراطية معا. البعض يريد أن نتبنى نموذج التحول الديمقراطى فى إندونيسيا ذات الأغلبية المسلمة، والتى نجحت فى إقامة دولة حديثة ديمقراطية وحققت معها معدلات تنمية اقتصادية جيدة. آخرون يقترحون النظر إلى تجارب دول شرق أوروبا، وهناك حتى من طالب بضرورة أن نتعلم من تجارب شيلى والبرازيل!
ولعقود طويلة لم يألف العالم رؤية منتجات «صناعة مصرية»، ناهيك عن عدم إنتاج أى أفكار أو تقديم أى مصادر جديدة للمعرفة، ولهذا قد يكون صعبا عليه أن يفهم أن مصر تقدم الآن شيئا جديدا من إنتاجها.
ما حدث ويحدث فى مصر، سواء كان النجاح فى إسقاط النظام، أو ما يجرى من محاولات بناء دولة حديثة وديمقراطية، وما نشهده من تعبير الشعب المصرى عن نفسه سياسيا، حيث يرتدى البعض رداء الإخوان المسلمين، أو عباءة السلفيين، أو حتى بدله الليبراليين أو شعار اليساريين، هو تفاعل صحى. ما حدث ويحدث من جدل بين المصريين حول طبيعة الدستور، ودور الدين، وهوية الدولة... هو تعبير عن منتج مصرى جديد خالص يصنعه شعب من 90 مليون نسمة، منهم 36 مليونا يعيشون تحت خط الفقر، ومنهم 32 مليون مصرى لا يعرفون القراءة أو الكتابة.
ما سينتج عن التفاعلات الجارية على أرض مصر هو شىء لا يعرفه أحد، لا من الداخل ولا من الخارج. ما ستنتهى إليه مصر هو ما سيقرره ويعتمده الشعب المصرى. ما حدث ويحدث وسيحدث سينتج عنه وليد مصرى خالص لم يتوقعه أحد، ولا يعرف ملامح هذا الوليد، الذى سينتج برلمانا أكثر تمثيلا وأكثر قوة من سابقه، وسيقدم رئيس أضعف كثيرا من سابقه، وسيقدم مؤسسات أكثر عرضة لانتقادات الرأى العام، أحد. يجهل الشعب المصرى فى أغلبه الكثير عن تجارب الدول الأخرى، وهو غير ملزم أن ينقل شيئا عنها،عليه فقط أن يعمل بجد ويقظة على إنجاح تجربة ثورته المحلية الخالصة.