لا يريد الرئيس المنتخب دونالد ترامب الكثير من التاريخ، فقد دخله من أوسع أبوابه الممكنة بعد فوزه مرتين غير متتاليتين بالرئاسية الأمريكية. فى عام 2016 هزم هيلارى كلينتون، ثم تلقى هزيمة على يد جو بايدن عام 2020 إلا إنه لم يعترف بها، ثم عاد وانتصر باكتساح على نائبة بايدن، كامالا هاريس عام 2024.
وضمن ما يشغل ترامب حاليا هو كيف سيترك إرثا سياسيا حقيقيا بعدما حقق كل ما كان يتطلع إليه، وعاد منتصرا للبيت الأبيض بعدما توقع البعض دخوله السجون الأمريكية.
يطمح ترامب أن ينجح فيما فشل فيه 13 رئيسا أمريكيا منذ ظهور وإنشاء إسرائيل عام 1948 من صنع السلام فى الشرق الأوسط والأراضى المقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين. ويطمح ترامب أن ينجح فيما فشل فيه 7 رؤساء أمريكيين فى صنع السلام مع الدولة الإيرانية منذ نجاح ثورتها الإسلامية عام 1979.
ربما تدفع طبيعة ترامب المغايرة، خاصة تحرره من عبء الأحزاب والمؤسسات السياسية والجهات الفاعلة البيروقراطية كوزارتى الخارجية والدفاع، والمؤسسات الاستخبارية واللوبيات المختلفة، إلى الدفع بخطوات جريئة فى هذه الاتجاهات.
• • •
مع عدم وجود ما يمكن أن يطلق عليه «مبدأ ترامب فى السياسة الخارجية»، إذ إنه، ومنذ وصوله للحكم للمرة الأولى عام 2016، يتساءل الكثير من الخبراء عن محركات الرئيس ترامب فى قضايا السياسة الخارجية، وضاعف من صعوبة السؤال غياب وجود إطار أيدولوجى ينزع إليه ترامب أو يلتزم به. وفى الوقت الذى تبدو فيه الفوضى والجهل كأكثر ما يميز مواقف ترامب تجاه قضايا السياسة الخارجية بصفة عامة، اتخذ قرارات بطريقة مغايرة لما عهدته واشنطن لعقود تجاه المنطقة الأكثر اضطرابا فى العالم، وطغى ترامب وخلفيته بصورة كبيرة على سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط.
اليوم يريد ترامب أن يبنى إرثا لم يحققه أحد من قبل. ويرى ترامب نفسه مفاوضا عظيما، يمكنه الوصول لصفقات يراها الآخرون مستحيلة.
يملك ترامب ما لا يملكه غيره من السياسيين من قدرة كبيرة على الضغط على الجانب الإسرائيلى والأطراف العربية بصورة مختلفة عما عهدوه من ساكنى البيت الأبيض. يمكن لترامب أن يخطو خطوات الرئيس السابق ريتشارد نيكسون تجاه الصين، ونراه يهبط بالطائرة الرئاسية الأمريكية فى مطار آية الله الخمينى فى قلب طهران. لا يستطيع رئيس غير ترامب تطبيع العلاقات مع إيران وافتتاح سفارتين فى واشنطن وطهران. لا يستطيع أن يفرض رئيس أمريكى السلام فى الشرق الأوسط إلا ترامب.
أُدرك جيدا ما يتردد عن أن ترامب شخصية ساقطة أخلاقيا، وفاجرة، ولا يكترث بقيم الحق والعدل وحقوق الشعوب، يكترث فقط بشخصه ومصالحه وإرثه ومجده، وهذا قد يكون الدافع المحرك له للخروج عن النسق التقليدى والقوالب الجامدة فى التعامل مع قضايا العالم وعلى رأسها الانسداد فى عملية سلام الشرق الأوسط وانعدام وعدائية العلاقات الأمريكية مع إيران.
• • •
يرث ترامب سياسة خارجية فاشلة، سواء من الحرب الروسية على أوكرانيا وتورط واشنطن فيها تسليحا وتمويلا وتدريبا، وصولا لفوضى الشرق الأوسط مع استمرار العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وهشاشة الموقف بين إسرائيل وحزب الله، والهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، وتقدم طهران فى برنامجها النووى رغم القيود والعقوبات الدولية والأمريكية. سيعمل ترامب على تبنى سياسة خارجية قومية يراها أكثر إنصافا للمصالح الأمريكية المادية التى تجاهلتها الإدارات السابقة. وسبق وأمن ترامب بضرورة انسحاب قوات بلاده من حرب لا طائل من ورائها فى أفغانستان، وكاد أن يستقبل قادة حركة طالبان فى البيت الأبيض. وعبر ترامب حدود كوريا الجنوبية إلى كوريا الشمالية، واجتمع مع رئيسها كيم جون أون، فى سيناريو لم يتخيله حتى صناع أفلام هوليوود قبل سنوات.
• • •
بعد أسبوع من فوزه فى انتخابات 2016، تعهد الرئيس ترامب بتحقيق السلام فى الشرق الأوسط قائلا: «هذه هى صفقة القرن، وأنا كصانع صفقات، أود أن أعقد هذه الصفقة التى صعبت على الجميع من قبل، وأود أن أنجز هذه الصفقة من أجل البشرية جمعاء». وجدد ترامب خلال الحملات الانتخابية لـ 2024 تعهداته بوقف القتال وتحقيق السلام فى المنطقة الأكثر اضطرابا فى العالم.
خلال الحملة الرئاسية، تعهد ترامب بتحقيق السلام للمسلمين والعرب الأمريكيين، كما تعهد ترامب كذلك لأصدقائه اليهود الأمريكيين بحماية إسرائيل ودعمها بكل ما هو ممكن.
وعندما أعلن الرئيس ترامب عن نيته التوسط والتعهد بحل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكونه قادما من خارج المؤسسات السياسية، لم يلتزم بالاستمرار فى الأدوار والمواقف الأمريكية التقليدية التى تبناها الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون من قبله. وبدأ ترامب خطوات عملية على الأرض قبل الإعلان عن صفقته لسلام الشرق الأوسط والتى أعلنها فى يناير 2020، والتى خططت لمنح الفلسطينيين دولة منقوصة السيادة ومنقوصة الأراضى، وهو ما أدى لرفضها رفضا قاطعا من الجانب الفلسطينى.
خلال فترة رئاسته الأولى، عهد ترامب إلى صهره جاريد كوشنر مهمة هندسة عملية سلام الشرق الأوسط، وحقق كوشنر الكثير من النجاح بالمعايير الأمريكية. وقال كوشنر فيما يعكس رؤية ترامب للشرق الأوسط خلال فترة حكمه الأولى، «أتذكر أول مرة جلست مع المفاوضين من الطرفين، سألتهم ما هى النتيجة التى يمكن أن نقبلها ويقبلها الطرف الآخر، الفلسطينيون قالوا العودة إلى حدود 1967، طلبت منهم عدم النظر إلى الوراء، فنحن فى عام 2017».
• • •
اليوم ونحن على مشارف عام 2025، وبعد أكثر من عام من العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وتدمير بنيتها التحتية وسبل الحياة بها، واستشهاد ما يقرب من 50 ألف شخص، وإصابة أكثر من 100 ألف آخرين، تبدو صور الحديث عن سلام الشرق الأوسط دربا من الخيال.
لكن الأمر لا يبدو كذلك بالنسبة لترامب. وأختار ترامب صديقه المقرب رجل الأعمال والعقارات ومحب رياضة الجولف، مثله مثل ترامب، ستيفن ويتكوف، ليكون مبعوثه للشرق الأوسط.
جاء اختيار ترامب لمطور عقارى لعملية سلام الشرق الأوسط ليؤكد ما هو مؤكد فى نظرته لمشاكل الإقليم من زاوية المطور العقارى ورجل المقاولات، وأنه يمكن حل كل مشاكل المنطقة المعقدة من خلال صفقة عقارية عملاقة واحدة.