أكتب هذا المقال الأربعاء صباحا، فى الوقت الذى بدأت فيه محاكمة الشباب المتهمين بالتظاهر أمام مجلس الشورى فى نوفمبر الماضى. الشباب، وبينهم ابن أختى، علاء عبدالفتاح، دخلوا الآن إلى الصندوق الزجاجى المفَيِّم، الذى سيمنع عنهم التواصل الصوتى مع قاعة المحكمة إلا إن داس القاضى على زرار معين. والشباب يتعاملون الآن مع هذا الإبداع القمعى الجديد لداخليتنا المبهرة بإبداع من عندهم: يشاغلون القاعة بالتوجه إليها بلعبة «أفلام»، وهى اللعبة التى يمثل فيها فريق ــ فى صمت ــ عنوان فيلم، وعلى الفريق الآخر أن يُخَمِّن هذا العنوان. الشباب داخل الصندوق الصامت يمثلون والقاعة تستجيب بأسماء أفلام مقترحة. المحاكمة تبدأ الآن، وقارئى الكريم سيكون على دراية بأحداثها وهو يقرأ هذا الكلام يوم الخميس. أما أنا، حبيسة صباح الأربعاء، فأريد أن أشارككم خطابا جاءنى من شاب حبيس فى أحد سجوننا العامرة. أنشره هنا، متوجهة به بشكل خاص إلى المجلس الوطنى لحقوق الإنسان.
الأصدقاء والرفاق القدامى فى مجلس حقوق الإنسان، بلغنى استياء/ غضب/ تحفظ بعض منكم على علاء عبدالفتاح، وعلى سناء سيف، وربما على أفراد آخرين من أسرتنا. وأنا أكتب لأرجوكم الآن أن تضعوا هذا جانبا. إنسوا أسرتنا تماما، فهناك الكثير جدا الذى يمكن عمله والذى لا يمسنا، وانتم جميعا لكم تاريخ نضالى طويل وتعرفون ظروف هذا البلد وقادرون، من موقعكم هذا، على إنجاز الكثير من الخير له. تشجعت جدا حين قرأت فى موقع «يناير»، الثلاثاء، أنكم سوف تستأنفون زياراتكم للسجون وأماكن الاحتجاز، زيارات «تستهدف الإطلاع على أحوال السجون فى ضوء ما يصل للمجلس من شكاوى وتبعا لما ينشر بالصحف عن حالات وفاة لبعض المحتجزين فى غرف الاحتجاز بالأقسام»، ورأيت أن أشارككم عينة مما يأتى لى من مراسلات من داخل السجون. أنشرها هنا، وأعلق عليها بشكل مختصر فى النهاية.
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة من وراء القضبان
السيدة الفاضلة/ اهداف سويف
تحية طيبة وكل عام وانت بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك،
اما بعد،
انا يا سيدتى واحد من ناس كثيرة تم القبض عليهم عشوائيا وأنا اسير فى الشارع فى مكان بعيد جدا عن مقر سكنى وقد اوقعنى حظى السيئ ان يكون فى وقت بعد مرور مسيرة تابعة لجماعة الإخوان وقد تم وضع اسمى فى قضية تهمتى فيها التظاهر بدون تصريح وتم الحكم فيها على بخمس سنوات سجن، ومازلنا فى انتظار الفرج فى اول جلسة استئناف والتى تم تأجيلها اكثر من مرة وآخرها تم تأجيلها لآخر شهر اكتوبر القادم لا ندرى لماذا، واملى فى الله ان يخرجنى من هذا الكابوس المرير على خير لأننى ليس لى أى انتماء سياسى أو حزبى ولا انتمى لجماعة الإخوان بأى شكل والى الآن اكثر من ٨ شهور وانا لا اعلم ماذا سيصبح مصيرى.
ما جعلنى اكتب اليك انك.. تعطينا املا انه مازال احد يهتم بنا فى وقت قام نظام انتقالى متخبط بالقبض العشوائى علينا، وقام بتلفيق قضايا لنا بدون أى دليل أو حتى شهود غير اقوال ضابط الداخلية الذى كتب المحضر والذى هو خصم فى الاساس، ولا يوجد أى احراز أو قرائن تثبت صحة ما جاء فى محاضر الشرطة، بل ان اكثر المحاضر منقولة عن بعضها البعض مع تغيير التواريخ واسماء المتهمين، وهذا ما عرفناه بعد ذلك واكده لنا المحامين المدنيين والحقوقيين المتابعين لقضايانا، بل والادهى من ذلك يا سيدتى ان نفاجأ بأقصى الاحكام (من ٣ إلى ٥ سنوات) بتهمة التظاهر، والذى يجعلنى انا ومن حولى نشعر بالقهر والظلم هو ان جميع المحامين والحقوقيين يقولون لنا بالحرف: «اذا اخذت هذه القضايا بالقانون بدون الدخول فى السياسة فإن القاضى المفروض يعطيكم براءة من اول جلسة فلا توجد احراز ولا شهود أو دليل يثبت ان المقبوض عليهم كانوا فى المظاهرة غير اقوال كاتب المحضر». هذا بجانب ان النيابة ازالت عننا تهما كثيرة ولم تقتنع بوقائع المحضر. ورغم كل هذا نفاجأ بالأحكام.
ما جعلنى اكتب اليك اننى بعد اكثر من ٨ شهور أؤكد لك يا سيدتى بعد رؤيتى لكثير من السجناء السياسيين مثلى ــ واكثرهم من الطلبة ــ ان اكثر من ٧٠٪ ممن قبض عليهم فى قضايا التظاهر لا ناقة لهم ولا جمل فى هذه القضايا، وتم القبض عليهم عشوائيا وهم يسيرون فى الشارع بعد مرور أى مسيرة، ولا ينتمون إلى أى جماعة أو حزب سياسى، وان حوالى ١٠٪ من المقبوض عليهم هم من ينتمون إلى الجماعة، و٢٠٪ ممن يتعاطفون معهم. بل اكثر من ذلك ان كثيرا منا يعترضون على جماعة الإخوان وما فعلوه وعدم اعترافهم بأخطائهم والتى اوصلت الوضع إلى ما نحن فيه الآن.
ما جعلنى اكتب اليك يا سيدتى انه بعد تولى الرئيس السيسى للحكم تم ترحيلنا إلى سجون اخرى بعيدة عن مقار سكننا بأكثر من ١٥٠ كيلو مترا، بل تتم معاملتنا على اننا سجناء جنائيون وما ادراك ما يحدث للسجناء الجنائيين بالسجون من معاملة غير آدمية فى التفتيش والزيارات أو فى الظروف الخاصة كالمرض أو ما شابه ذلك، ففى أى دولة تحترم القانون تتم معاملة الحيوانات بطريقة اكرم من التى يعامل بها الجنائيون ونحن اصبحنا جزءا منهم.
ادعو كل جمعيات حقوق الانسان (والتى تهتم فعلا بحقوق الانسان وليس مجاملة النظام) بزيارة السجون: مثل سجن الاستئناف الذى يقع خلف مديرية امن القاهرة، وزيارة زنازين الدور الثالث أو الرابع أو غرفة الايراد بالدور الارضى، ليروا مدى القذارة وعدم الاهتمام بأى آدمية لأحد، فالحشرات منتشرة فى كل مكان والروائح الكريهة وكل السجناء عندهم امراض جلدية من جرب وقرح، بل ويوجد سجناء عندهم فيروس سى ونجد الجنائيين يستخدمون ماكينة حلاقة واحدة لأكثر من ١٥ شخصا ليحلقوا ذقونهم ورأسهم بسبب عدم السماح والتضييق على ماكينة الحلاقة فى دخولها، لكن والادهى والأمر يا سيدتى انه يباع فى هذا السجن الحشيش والحبوب المخدرة (التى يطلقون عليها الاحمر، والابتريل، وابو شرطه) هذا كله امام اعيننا. انا اسأل ماذا تريد الدولة منا اكثر من سجننا؟ هل تريد اذلالنا بدخولنا وسط الجنائيين؟ هل تريد ان تصيبنا الامراض الجلدية المعدية والفيروسات القاتلة؟
بعد ٨ شهور يا سيدتى، وبعد كل زيارة لنا وتحمل اهالينا لمشقة السفر اكثر من ١٥٠ كيلو من اجل زيارة لا تمتد لأكثر من٢٠ دقيقة، نرى الدموع فى عيون امهاتنا وآبائنا وزوجاتنا للعذاب الذى نحن فيه من مهانة وشتائم وسب الدين من القائمين على السجون على اعتبار اننا من الجنائيين، اصبحت نفسيتنا فى الحضيض واصبح كل همنا اما ان نخرج أو نموت ونستريح من هذا العذاب!!
ادعو أى احد ان يجلس مع الطلاب المحبوسين، ويسألهم ــ بعد كل هذه الفترة فى الحبس وضياع السنة الدراسية الماضية وتوقعهم بضياع القادمة بعد صدور احكام الحبس وتأجيل القضايا لشهر اكتوبر ــ ماذا تريدون؟ سيقول لكم معظمهم انهم كرهوا البلد ويريدون ان يتركوه... هل هذا ما يريده النظام من شباب مازال المستقبل املا بالنسبة لهم؟!
ادعوكم ان تجلسوا مع الشباب المحبوسين، وانا منهم، ستجدون اغلبهم اطباء ومهندسين ومحاسبين فقدوا وظائفهم وخربت بيوتهم، اجلسوا معهم واسألوهم ماذا تريدون؟ ستجدون ان معظمنا يريد ان يموت ويستريح من هذا الكابوس أو ان يترك البلد بعد الذل والمهانة التى لاقاها فى السجن ويأخذ معه اولاده وزوجته لأنه يخاف ان يحدث مع اولاده مثلما حدث معه من ظلم وقهر. هل هذا ما يريده النظام من الشباب اصحاب العائلات امثالنا؟ والله لو هذا ما يريده فلينفونا إلى أى بلد. والله أى بلد سيعاملنا بطريقة اكثر آدمية من التى تعاملنا بها فى هذه السجون.
احب ان اوجه رسالة من خلال مقالتك إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، واقول له:
«يا سيادة الرئيس ارجو ان تنظر إلى قضية الشباب المحبوسين فى قضايا سياسية، وقد قلت قبل فترة انتخابك ان القضايا التى ليس فيها دماء سيتم النظر فيها. وكل قضايا التظاهر بالذات ملفقة يا سيادة الرئيس، هذا بالاضافة إلى ما يؤكده الحقوقيون الدستوريون من عوار قانون التظاهر من الناحية الدستورية، وان هناك قضايا مرفوعة امام المحكمة الدستورية بالطعن عليه والمطالبة بتغير مواد به اهمها الحبس لمخالفتها للدستور، بل ومطالبه الاحزاب السياسية والحركات الثورية بإسقاطه.
أرجو ان تنظر إلى المحبوسين بنظرتك الانسانية، وان تراعى ظروفنا وظروف أهلنا الاجتماعية والانسانية والنفسية، وأن تأمر بالإفراج عنا أو ان تأمر بإيقاف العمل بقانون التظاهر المطعون على دستوريته إلى ان يتم البت فيه امام المحكمة الدستورية أو تتم مراجعته امام أى لجنة تشريعية.
وارجو يا سيدى الرئيس ان تتخذ هذا القرار سريعا فأنت لا تعلم كيف يمر علينا اليوم الواحد فى السجن فاليوم يمر علينا كسنة.
ارجو ان تنظر الينا بعين الاب الرحيم وان تصحح ما فعله بنا نظام انتقالى متخبط من قبض عشوائى، وان تخرجنا من هذا الصراع الذى ليس لنا فيه أى يد بين الدولة وجماعة الإخوان. فوالله ان اكثر المقبوض عليهم فى قضايا التظاهر ليس لهم أى انتماءات سياسية أو حزبية بل اكثرهم هم طلبة واطباء ومهندسون يريدون ان ينفعوا بلدهم بعيدا عن أى صراع سياسى أو دينى».
ارجو يا سيدتى ان يصل كلامى هذا لسيادة الرئيس، وان يرفع الظلم عن المظلومين، حتى عن الشباب الذين كان الاعلام يتغنى بهم بعد ثورة ٢٥ يناير والآن اصبحوا وراء القضبان امثال علاء عبدالفتاح واحمد ماهر واحمد دومة وغيرهم، ولا ندرى لماذا هذا التناقض.
اخيرا اناشدك يا سيدتى بأن تستمرى بالكتابة عن قضيتنا.. فى وقت لا يريد الكثير ان يسمعنا أو ينظر الينا لا ادرى لماذا؟
التوقيع والمكان،
٢٠١٤/٨/٥
وقد أضاف المواطن الشاب الحبيس بعض الملحوظات لخطابه، أورد منها:
• الرجاء عدم ذكر اسمى لانى اخشى ان اتعرض لمضايقات من الداخلية لكلامى على ما يحدث من تجاوزات مع المحبوسين، أو من المحبوسين من جماعة الإخوان المسلمين لنقدى تصرفات جماعتهم.
• لم اذكر فى خطابى أى نقد للقضاء ولكننا هنا نرى ان القضاء مسيس وغير عادل. نرى الاحكام فى القضايا التى تكون بنفس الوقائع ونفس الاحداث ولكن قضية تأخذ براءة أو حكما مخففا وقضية تأخذ حكما كبيرا ٣ أو ٥ سنوات والاختلاف هو شخص القاضى! هل هذا عدل؟ وغير هذا كثير.
• لم اذكر أيضا الكثير من تجاوزات الداخية مع المحبوسين وهى كأمثلة: عدد المحبوسين فى الزنزانة مساحتها اقل من ٦.٥ متر يتجاوز الـ٣٥ فردا، وبالتالى الكل ينام ع الارض على جنبه بالتوالى مع عدم التهوية وظروف الصيف وانتشار الامراض الجلدية. انقطاع المياه فى اكثر اوقات النهار. سرقة متعلقات المحبوسين مع كل تفتيش. سوء اكل السجن وبالذات المقدم للجنائيين. سوء الرعاية الطبية للمساجين أو انعدامها واسألوا كم فردا يتوفى يوميا فى السجون؟ سرقة المتعلقات (الزيارة) التى تجىء للمساجين مع زيارة الاهالى. اجراءات استقبال أى مسجون جديد فى أى سجن والمعاملة التى يلقاها من تفتيش ذاتى وقلع هدومه والطلب منه قضاء حاجته والترجيع تحت مسمى وجود اشياء أو حبوب فى بطن المسجون. قلة اوقات التريض فى معظم السجون.
• لكى تبرر الداخلية القبض العشوائى علينا سمعنا ان كل تقارير الامن الوطنى تقول اننا من جماعة الإخوان وهذا مخالف للحقيقة. وسمعنا ان ذلك حدث مع شباب من اعضاء ٦ ابريل.. لم نتأكد من ذلك، ولكن لو تقارير الامن الوطنى صحيحة فى التحرى لماذا لم يفرجوا عنا لعدم انتمائنا لهذه الجماعة؟
• اود ان اوضح ان مع اختلاطنا بالجنائيين وجدنا انهم مجنى عليهم مثلهم مثلنا، منهم كثير مظلومون بسبب القضاء والداخلية، ومنهم مظلومون بسبب الظروف التى احاطت بهم ــ يعنى إن الدولة لم توفر لهم أساسيات الحياة الكريمة. المفروض من يسجن قبلهم هو المسئول عن عدم توفير حياة كريمة لهم.
وشكرا
هنا ينتهى الخطاب.
أنا شخصيا لا أستبعد، استنادا إلى ما أراه من ممارسات، أن يكون النظام الحاكم فعلا ماعندوش مشكلة إن الشباب تكره البلد وتكره نفسها وكل ما أحبطوا أو هاجروا أو ماتوا يبقى خير وبركة. ولكن، هل هذا ما يريده أيضا ممثلو المجتمع المدنى لشباب هذا البلد؟
طيب مش عاجباكم مواقف السياسيين، اعملوا على إطلاق سراح الشباب الذين لا يصنفون أنفسهم بـ«سياسيين»، بل يصرون على إنهم مالهمش فى السياسة وبس عايزين يشتغلوا وينتجوا وينفعوا نفسهم وأسرهم ــ وينفعوا ــ لو كان ممكن ــ البلد. لو دى ما تضايقش حد يعنى.
طيب مش مطمنين لدول، ممكن شغل كتير يتعمل على تحسين الأوضاع فى الحجز وفى السجون للمساجين العاديين. مش لازم نبقى متمسكين قوى كده بالجو والتعامل بتاع عصور الظلام من خمسمائة سنة. يعنى ممكن برضه، حتى فى إطار المحافظة أو حتى الرجعية السياسية، نفكر فى السجن على إنه مكان إصلاح وتقويم مش إنه مزبلة بنرمى فيها البنى آدمين ونطلق بنى آدمين تانية تهبش وتنهش فيها.
سجن الاستئناف فى باب الخلق ده بالذات، علاء عبدالفتاح كتب عن الأيام اللى قضاها فيه فى نهايات ٢٠١١، والظروف اللى شافها واللى خلته يكتب جواب مفتوح لوزير الصحة، وكان وقتها الدكتور عمرو حلمى، يطلب منه بس طاقم دكاترة تعالج المساجين من جرب وأمراض وحوادث علاجها بسيط لكن تركها سيؤثر فى الإنسان العمر كله. يطلب منه إشرافا صحيا يؤَمِّن بس دخول الشمس إلى الزنازين.
رجاء رجاء رجاء، ركزوا مع الناس اللى متاخدة غلط، ومع الجنائيين.