عصابات الثقافة.. وخياناتها - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الثلاثاء 25 فبراير 2025 10:17 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عصابات الثقافة.. وخياناتها

نشر فى : الجمعة 7 أكتوبر 2011 - 9:05 ص | آخر تحديث : الجمعة 7 أكتوبر 2011 - 9:05 ص

إذا كنا قد تحدثنا فى الأسبوع الماضى عن عصابات الثقافة المصرية، بضم العين، وأمراضها المختلفة التى على أمين المجلس الأعلى للثقافة، بكل دراساته وأبحاثه فى علم النفس تخليص الثقافة المصرية منها، فعلينا الآن أن نتحدث عن عصابات (بكسر العين) الثقافة التى يمتلئ بها المجلس الذى عين أمينا عاما له. ومن البداية لابد من الوعى بأن هناك علاقة عضوية بين الأمراض التى تعانى منها الثقافة المصرية، وعانت منها مصر على مد العقود الأربعة الماضية، وبين عصابة (بكسر العين) من يسمون أنفسهم بالمثقفين زورا، والتى صاغت خطاب تلك العقود المتسمة بالانحطاط والتردى والهوان، ونظّرت بنفاق الحاكم لخطاب تسويغ الاستبداد، واستمرار نظام مبارك المخلوع، بل وتوريثه. فبدون تخلى هؤلاء «المثقفين» بين قوسين عن دورهم الثقافى كضمير للأمة وكتجسيد لعقلها النقدى الحر وتحولهم إلى خدّام للاستبداد والظلام، مهما تذرعوا بنشر التنوير، ما كان باستطاعة هذا النظام أن يستمر فى حكم مصر لثلاثة عقود.

 

ولا بد من الوعى أيضا بأنه لا يمكن إحداث أى تغيير حقيقى فى مجال الثقافة فى مصر دون قطيعة كاملة وجذرية مع تلك العصابة من خدّام الاستبداد وخطابها وممارساتها. فلا أمل فى أى تغيير جذرى يعبر عن مطامح الثورة المصرية المجيدة فى مجال الثقافة أو حتى فى أى مجال آخر، مادامت نفس العصابة الثقافية التى أدارت العملية الثقافية فى عصر التردى والهوان الذى ثارت عليه مصر كلها فى 25 يناير تواصل إدارتها للعملية الثقافية، وتحتفظ بمراكزها فيها. لأن هذه العصابة، وبسبب من استراتيجيات النظام السابق الكريهة فى شراء الذمم وإدخال المثقفين إلى حظيرة «الوزير الفنان» وخدمة نظام الاستبداد الذى ترأسه مبارك المخلوع، تخلت فى واقع الأمر عن كل ما يربطها بالثقافة من قيم مثالية راقية، وعن دور المثقف المطالب بأن يقول كلمة حق فى وجه سلطان جائر، والذى تصبح ممارساته الفكرية والأخلاقية نموذجا يحتذى. وأصبح معظم رموزها نماذج ناصعة على أنماط خيانة المثقفين التى تناولها جوليان بيندا فى كتابه الشهير (خيانة المثقفين La Trahison des Clercs) فى عشرينيات القرن الماضى.

 

فهذه العصابة التى استقوت بالنظام الفاسد، وظهر أبرز نجومها وقد أحاطوا برأس النظام الفاسد، مبارك المخلوع، فى الصورة الفضيحة التى استهدفت الدفاع عن نظامه المتهاوى، والذين شبههم أحد الكتاب بالأحد عشر كوكبا الذين خروا ساجدين. ومع «نجوم» الصورة الفضيحة من «المثقفين» بين قوسين أيضا أقطاب الاجتماع الأشهر مع ابنه الفسل الذى كان رئيسا للجنة السياسات، والقابع الآن فى سجن طرة. هذه العصابة هى التى قامت بتسويغ سياساته الخرقاء، والتى انتهت بنظامه ذخرا استراتيجيا للعدو الصهيونى. ولا يمكن بأى حال من الأحوال الفصل بين تسويغ هذه العصابة لخطاب الاستبداد وحصولها على تلك المراكز والمناصب الثقافية، ولا بين هذا الرباط العضوى بين «مثقفيها» والنظام الساقط، وبين تدهور مصر وهوانها.

 

لقد ارتكب كل هؤلاء المثقفين شتى صنوف الخيانة التى عددها جوليان بيندا فى كتابه الشهير ذاك، ولن تفيدهم ذرابة ألسنتهم فى تبرير ما قاموا به، ولا فى التمويه على الشعب المصرى، أو على الجمهور الثقافى العربى، الذى لا تنطلى عليه حيلهم مهما كانت ذرائعهم ومهاراتهم فى تسويقها. فقد كانت خيانة الأمانة الثقافية، والتخلى عن الرأى النقدى العقلى الحر، من شروط دخول حظيرة «الوزير الفنان» مهندس ثقافة الانحطاط فى عهد مبارك المخلوع. وكان خلع كل ما له علاقة بالقيم الثقافية أو بمستقبل مصر على باب المؤسسات الثقافية شرط دخول حظائرها والاستمتاع بعلفها الوفير. فعلى عكس تعريف بيندا للمثقف بأنه ممتلئ بثقافته وقيمه الفكرية والأخلاقية بصورة تجعله قادرا على مقاومة كل إغراء مادى، والزراية بغوايات القوة المسيطرة وسلطانها، كان أفراد تلك العصابة عبيد العطايا المالية التى أجزلها لهم النظام الفاسد، وكانوا يلهثون وراء فتات ما يلقيه لهم «الوزير الفنان» من مناصب وسلطات. فقد كان النظام يدرك شبقهم للمادة والسلطة على السواء، ولذلك أجزل لهم العطاء فى شكل رأسمال فعلى، وصل إلى حد الملايين بالنسبة للبعض، أو رشاوى رمزية من جوائز ومناصب ونفوذ، كان يتحول دوما إلى منافع مادية، لا علاقة لها بالثقافة من قريب أو بعيد.

 

صحيح أن خيانات المثقفين، وخطاباتهم التبريرية وشقشقاتهم على مد العقود الماضية فى تسويغ الاستبداد وإضفاء هالة كاذبة على نظام تتكشف مع الأيام فصول عمالته البشعة للعدو الصهيونى، لم تنطل على الشعب المصرى، ولم يقتنع شبابه على الخصوص بأى من كتاباتهم فى تبرير الانحطاط وتسويغه. وقام الشعب بثورته العظيمة مناديا بإسقاط النظام الفاسد والمهين لمصر ولتاريخها وثقافتها. فكيف يمكن إسقاط النظام والإبقاء على عصابته الثقافية؟ وهل باستطاعة أى من رموز تلك العصابة أن يساهم فى بناء ثقافة جديدة جديرة بثورة شعبنا العظيمة؟ صحيح أن قدرتهم على التلون عجيبة وذرابة ألسنتهم غريبة. فهل هذا هو السر فى الإبقاء على كل هذه الرموز المنحطة فى مواقعها؟ ألأنهم خدّام طيعون لكل نظام؟ فهل ما يطمح إليه النظام هو الإبقاء عليهم وتمكينهم من إجهاض الثورة والإجهاز عليها من الداخل؟ هل هذا هو ما يطمح الأمين الجديد للمجلس الأعلى للثقافة إلى تحقيقه؟ هذه أسئلة أتركها مفتوحة فقد نعود إليها فى مقالات قادمة لأن مصيبتنا فى الثقافة كبيرة وفادحة.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات