بدا الصدام بين الرهبان المسيحيين الأرثوذكس والأرمن فى كنيسة القيامة والتضارب بالأيدى والمكانس الطويلة مشهدًا غير مألوف وغير طبيعى. إذ كيف يتقاتل رهبان فى أقدس موقع لدى المسيحية، وهو كنيسة المهد؟.
والواقع ان هذا المشهد المحزن ليس جديدًا. فقد بدأ فى عام 1808 ولا يزال يتكرر. ونادرًا ما تمرّ مناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح من دون أن تشهد كنيسة المهد اشتباكًا من هذا النوع.
فى ذلك الوقت، أى فى نهاية شهر سبتمبر من عام 1808، نشب حريق كبير فى الكنيسة استمر يومين ألحق بها دمارًا واسعًا. يومها وجه الأرثوذكس التهمة إلى الأرمن بأنهم كانوا وراء هذا الحريق. لم تثبت التهمة، ولكنها ألصقت بهم.
وعندما تقرر ترميم الكنيسة حصل صراع أرمنى ــ أرثوذكسى حول من يتولى هذه المهمة المقدسة. هنا دخل اللاتين الكاثوليك على الخط، وطرحوا أنفسهم لاداء شرف ترميم المكان الأقدس عند المسيحيين. غير ان السلطان العثمانى محمود الثانى ولسبب يعود إلى ان المسيحيين فى القدس كانوا فى أكثريتهم من الأرثوذكس العرب، ورغبة منه فى كسب ودهم، أعطى حقّ الترميم اليهم.
كان طبيعيًا أن يعترض الأرمن، وأن يؤيدهم اللاتين الكاثوليك، مما ادى إلى تأخير الترميم مدة عام كامل، الا ان التأخير لم يؤد إلى التغيير. ففى شهر أغسطس من عام 1809، باشر الأرثوذكس فى ترميم الكنيسة وإزالة آثار الحريق استنادًا إلى القرار السلطانى.
مع ذلك، لم يستسلم الأرمن للأمر الواقع، فواصلوا اعتراضهم وتدخلوا لدى الباب العالى فى اسطنبول مرة جديدة للسماح لهم فى المشاركة فى الترميم. فى ذلك الوقت، كانت العلاقات العثمانية ــ الأرمنية على أحسن حال. ولم تكن الكارثة التى تعرّض لها الأرمن ــ فيما بعد ــ قد وقعت. استجاب السلطان محمود الثانى للمساعى الأرمنية. وتجسدت استجابته فى تشكيل لجنة قضائية (من سبعة قضاة) ترأسها «شيخ الاسلام» للبت بصورة نهائية فى القضية.
استمعت اللجنة إلى وجهات نظر الطرفين، الأرثوذكس والأرمن، ودرست الأمر من كل جوانبه التاريخية، ثم أصدرت حكمًا أقرّه السلطان دون مراجعة. وقضى الحكم بإعطاء الأرثوذكس وحدهم حقًا حصريًا فى ترميم كنيسة القيامة. ولكن الحكم وضع شروطًا عليهم. من هذه الشروط:
أن يعاد بناء الكنيسة ــ كما كانت ــ أى دون إضافة أى انشاءات جديدة اليها، حتى لا تكون الزيادات موضع خلافات جديدة.
ومن هذه الشروط أيضًا:
أن يعاد للأرمن القسم من الكنيسة الذى كان مخصصًا لهم دون أى نقصان. وأن يتمتعوا باستخدام هذا القسم كما كانوا فى السابق ــ أى قبل الحريق ــ دون أى قيود.
ومن هذه الشروط كذلك:
أن يقوم الأرثوذكس بترميم الكنيسة الخاصة بالأقباط والتى كانت موجودة خلف القبر المقدس، على أن تعاد بعد الترميم إلى الأقباط.
التزم الأرثوذكس بهذه الشروط. الا انهم عندما رمموا الكنيسة القبطية، تعمدوا تقليل مساحتها عما كانت عليه، بحجة توسيع المدخل إلى القبر المقدس. ذلك ان الكنيسة القبطية تقع خلف القبر. اعترض الأقباط واحتجوا، ولكنهم اضطروا إلى قبول الأمر الواقع على أساس ان توسيع المدخل هو فى مصلحة المسيحيين جميعًا.
●●●
اكتمل ترميم كنيسة القيامة فى عام 1810. وأقيم أول قداس فيها بعد الترميم يوم 13 سبتمبر من ذلك العام. وكان قداسًا أرثوذكسيًا.
بلغت نفقات الترميم 355 ألف ريال. وهو مبلغ كبير جدًا، فى حسابات ذلك الوقت، ما كان باستطاعة الأرثوذكس منفردين توفيره. لذلك وافقوا على قبول مساهمات مالية من الأرمن ومن اللاتين. وكانت هذه المساهمات أساسًا لتكريس الشراكة الأرثوذكسية ــ الأرمنية ــ اللاتينية فى الكنيسة، وفى الإشراف على «القبر المقدس». فالمسيحيون يعتقدون أن السيد المسيح دفن هناك، وانه من هناك خرج فى اليوم الثالث وصعد إلى السماء. (أما الاسلام فيقول بأن الله توفاه ورفعه اليه. وهذا موضوع آخر).
كان المسيحيون جميعًا، الأرثوذكس والأرمن واللاتين، يحتفلون بعيد ميلاد السيد المسيح فى وقت واحد، الخامس والعشرين من ديسمبر، واستمر هذا التقليد حتى عام 1633 عندما قرر الأرمن أن يعيّدوا يوم «سبت النور» الذى يصادف السادس من يناير. ويدّعى الأرثوذكس أن الأرمن فعلوا ذلك من أجل أن يحتفلوا بالميلاد منفردين، أى دون مشاركة الكنائس الأخرى. ومهما يكن من أمر هذا الاعتقاد، فان هذا التقليد الدينى مستمر حتى اليوم، وهو تقليد تعتمده الكنيسة القبطية أيضًا.
ومن هنا أصل الاشتباك بين الرهبان فى كنيسة القيامة. فبعد الاحتفالات بالميلاد التى تجريها الكنائس الأرثوذكسية واللاتينية ــ الكاثوليكية يوم الخامس والعشرين من ديسمبر، يتولى الأرمن إعادة تنظيف كنيسة المهد استعدادًا لاحتفالاتهم الخاصة بهذه المناسبة المقدسة. إلا أن الأرثوذكس يؤكدون حقهم وواجبهم فى تنظيف الجزء المخصص لهم من الكنيسة، وتالياّ اعتراضهم على أن تصل «المكانس» الأرمنية إلى هذا الجزء. ويبررون ذلك بالخوف من أن يتحول ذلك إلى حق مكتسب للأرمن على حساب الأرثوذكس (على قاعدة أن الكنيسة لمن ينظفها؟)
وكان هناك خلاف أرثوذكسى ــ أرمنى أيضًا حول من يقوم بشرف فتح باب كنيسة القيامة أمام وفود الحجاج الذين يتوافدون اليها من أنحاء العالم.
وفى عام 1834 (اى بعد انهزام الامبراطورية العثمانية أمام روسيا، واستقلال محمد على بمصر وسيطرة ابنه ابراهيم باشا على فلطسين وسوريا) قام أحد كبار العسكريين الروس بزيارة القدس ووقف على تفاصيل هذا الخلاف. وقد ساءه أن يرى الرسوم تفرض على الحجاج المسيحيين مقابل السماح لهم بدخول الكنيسة. ومن المعروف ان هذه الضرائب كانت قد فرضت فى عهد صلاح الدين الأيوبى بعد تحرير القدس من قوات الفرنجة (الصليبيين). وكان يقوم بجبايتها آل نسيبة وآل جودة بصفتهم حراس الكنيسة. وفى طريق عودته ال بلاده عن طريق مصر، أثار هذا الامر مع الخديوى محمد على باشا الذى اصدر قرارًا بإلغاء الرسوم وبالإبقاء على باب الكنيسة مفتوحًا باستمرار.
المفارقة فى هذا الأمر هى ان أرمنيًا مصريًا يدعى بوغوص آغا كان مقربًا من محمد على حمل هذا القرار إلى والى القدس الذى لم يجد بدًا من تنفيذ القرار. ولقد تسلح الأرمن بتلك الالتفافة وقاموا بقتح الباب الجانبى للكنيسة ودخلوها وأدخلوا معهم الحجاج الآخرين من دون أن يدفعوا أى رسم أو رشوة، ومن دون أن ينسقوا مع الأرثوذكس.
حدث ذلك فى 13 يناير 1834. ومنذ ذلك الوقت، اعتمد الترتيب المستمر حتى اليوم، وهو أن يقوم الثلاثة، الأرمن والأرثوذكس ومعهم اللاتين الكاثوليك، بفتح باب كنيسة القيامة معًا.
وعندما ضرب زلزال قوى مدينة القدس فى شهر مايو من عام 1834، سارع المسيحيون وخاصة الأرثوذكس والأرمن إلى الحصول على تراخيص من ابراهيم باشا لترميم وتوسيع الأديرة والكنائس التى يشرفون عليها. وكان ابراهيم باشا يتعاطف مع مسيحيى القدس بسبب ثورة المسلمين ضده. ونظرًا للنفوذ الذى كان يتمتع به بوغوص آغا، فقد استحصل للأرمن من محمد على مباشرة على الموافقة لإعادة بناء ثلاثة مواقع هى أكثر المواقع قدسية لدى المسيحيين. وهى كنيسة القيامة فى القدس، وكنيسة المهد فى بيت لحم، وكنيسة جبل الزيتون فى القدس.
اشعل حصوله على «الفرمانات» السلطانية الثلاثة ثورة احتجاجية قام بها الأرثوذكس وتمكنوا بالقوة من منع الأرمن من تنفيذ مخططهم.
●●●
ولهذا الاشتباك أصل آخر. فعندما قامت الانتفاضات الوطنية فى الجزر اليونانية للاستقلال عن الامبراطورية العثمانية، لم يفرق العثمانيون فى محاولة قمع تلك الانتفاضات بين اليونانيين الأرثوذكس، والعرب الأرثوذكس. فعاملوا الجميع برد فعل انتقامى على انهم واحد. وقد بلغ الانتقام العثمانى حد تشريع اجراءات عنصرية تمييزية ضد المسيحيين الأرثوذكس فرض عليهم بموجبها لبس السواد والعمائم السوداء حتى يتم تمييزهم عن غيرهم. وفيما بعد، اتسع نطاق هذا الإجراء العنصرى ليشمل المسيحيين الآخرين دون تمييز أيضًا. ورغم الخلفية القومية للصراع العثمانى ــ اليونانى، فإن الاجراءات العنصرية التى فرضتها الادارة العثمانية اعطيت صفة دينية أساءت إلى الاسلام، وأساءت إلى العلاقات الاسلامية ــ المسيحية. فى ذلك الوقت اتهم الأرثوذكس الأرمن الذين كانوا يتمتعون بمواقع رفيعة فى السلطنة العثمانية، بأنهم ساهموا فى التحريض ضدهم انتقامًا لخسارتهم معركة شرف إعادة بناء وترميم كنيسة القيامة!! وهى المعركة التى نقلت شاشات التلفزة مشهدًا مؤلمًا لها فى الأسبوع الماضى.
فالحكم الذى أصدرته اللجنة القضائية برئاسة «شيخ الاسلام» فى عام 1809 لا يزال قائمًا ومعتمدًا حتى اليوم، رغم دخول كنائس جديدة على الصورة، مثل الكنائس الانجيلية، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية. إلا أن المفارقة المحزنة هى انه فى الوقت الذى يجرى فيه الصراع فى كنيسة القيامة، يتواصل الصراع على كنيسة القيامة ذاتها وعلى سائر المقدسات المسيحية والاسلامية التى تنوء تحت مطرقة التهويد، من الناصرة حتى بيت لحم، ومن الخليل حتى القدس.