بداية أقول إن التحولات الكبرى فى تاريخ الشعوب لابد أن تمر بمرحلة انتقالية.. وهذه المرحلة الانتقالية إما أن تتسم بالفوضى العارمة وغياب القانون وإما انتقالا سلميا منظما، ونحن الآن فى مصر امام مفترق طرق يدعونا للاختيار بين الرحيل المبكر لرئيس الجمهورية أو الرحيل المؤجل ـ أى فى نهاية الولاية الحالية.
إن شباب ثورة 25 يناير يقولون ـ ولديهم كل الحق ـ إن قوتهم فى تجمعهم وإنهم إن قبلوا العروض الحالية وتفرقوا مع بقاء رأس النظام الذى رفعوا فى وجهه الأحذية فى منصبه الذى أسمعوه ما أسمعوه فإن مصيرهم هو السجن والتنكيل وما مصير خالد سعيد ببعيد.. كما أنهم لا يثقون فى وعود النظام حتى لو جاءت من أعلى المستويات ـ فقد وعدوا مثلا بعدم التعرض لهم فى مظاهراتهم وظنوا أن القوات المسلحة تحميهم... وبالفعل قام الجيش بتأمين ميدان التحرير من خلال تفتيش الداخلين إليه عدة أيام حتى كان يوم هجوم بلطجية الحزب الوطنى.. فإذا بالجيش يسمح لهم بالدخول دون تفتيش، ثم عندما بدأت المذبحة اتخذ الجيش موقف الحياد السلبى.
وفضلا عن ذلك فهم يرون ويسمعون الخطاب الرسمى البائس الكاذب المفضوح.. مستمرا كما هو، فلايزال الخطاب الرسمى يتحدث عن القلة المندسة والأجندات الأجنبية وميليشيات القوى السياسية.. ومازال الإعلام الرسمى يعطى تبريرات خائبة للطعنات الجسام التى أصابت مصر فى الجسد والقلب مثل الغياب المريب لقوات الأمن والعدوان الهمجى على شباب التحرير. ومع ذلك فإن علينا أن نتحمل بقايا النظام القديم إلى أجل محدود.. خاصة وقد تقلمت أظافره وذلك لأن الانتقال من عهد إلى عهد لابد أن تشارك بقايا العهد القديم فى ترتيباته الانتقالية وإلا فهى الفوضى العارمة وانهيار الأمن والاقتصاد.. فالحل الأمثل فى رأيى ليس فى الرحيل الفورى لمبارك، بل فى بقائه حتى نهاية ولايته، ولكن دون أن يكون مشرفا على المرحلة الانتقالية. ويمكن إتمام ذلك من خلال قيامه بإحالة جميع سلطاته إلى نائبه ويمضى هو إلى استراحة طويلة بحيث يشرف السيد عمر سليمان على المرحلة الانتقالية دون أن يكون له حق الترشيح. وهناك مواد فى الدستور تتيح ذلك منها المادة 139 التى تتيح للرئيس تعيين نائب وأن يحدد له اختصاصاته. وقد عين الرئيس النائب دون أن يحدد له اختصاصا.. لذلك فمن الممكن أن يحيل له جميع اختصاصات رئيس الجمهورية. والمادة الأخرى هى المادة 82 التى تنص على أنه «إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لاختصاصاته أناب عنه نائب رئيس الجمهورية». وهكذا يستطيع السيد عمر سليمان أن يمارس اختصاصات رئيس الجمهورية خلال الفترة الانتقالية التى يتم فيها حل مجلسى الشعب والشورى ووضع دستور جديد وتشريعات جديدة تكفل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية على أسس ديمقراطية سليمة. أما إذا رحل الرئيس الآن فسنجد أنفسنا فى مأزق حيث يتم انتقال السلطة فى ظل الدستور الحالى بمواده المعيبة وحيث سنضطر إلى إجراء الانتخابات فى مدة لا تتجاوز ستين يوما كما تقضى المادة 84 من الدستور الحالى وهذه فترة لا تكفى لوضع دستور جديد، فإذا وضعنا أمام هذين الخيارين.. وليس أمامنا غيرهما.. وإذا أردنا انتقالا سلميا منظما للسلطة، فإننى أختار وبلا تردد خيار تفويض عمر سليمان بكل اختصاصات الرئيس. فى هذه الحالة سيكون هو أفضل ما يمكن الحصول عليه من رجال العهد القديم فالرجل لم تلوثه السلطة، كما أنه خلال رئاسته لجهاز المخابرات العامة لمدة عشرين عاما لم نسمع عن ممارسات أو انتهاكات أو معاملة لا إنسانية ضد المواطنين مثل التى كانت سائدة فى العهود الماضية أو مثل التى تدور فى أجهزة أمن الدولة.
ضمانات لابد من توافرها
هناك شرط للقبول بعمر سليمان مشرفا على المرحلة الانتقالية. وهو ألا يرشح نفسه للرئاسة، بالإضافة إلى تعيين وزير مدنى لوزارة الداخلية، وياحبذا لو كان من أحد رجال القانون كما هو الحال فى جميع الدول الديمقراطية، وهو شرط أساسى لضمان أشياء كثيرة منها عدم التنكيل بشباب ثورة 25 يناير بالإضافة إلى تنقية وزارة الداخلية من الداخل، فوزير الداخلية المدنى إذا كان من رجال القانون سيسهل عليه التعاون مع النيابة والقضاء وسيصبح ضمانة إضافية لتيسير الإشراف القضائى على الانتخابات.
المحكمة الجنائية الدولية: أود أن اقول للذين يظنون بإمكانية الشكوى للمحكمة الجنائية الدولية من الجرائم التى ارتكبت فى حق الشعب المصرى بأن الطريق إلى هذه المحكمة موصد تماما.. لأنه وفقا لنظامها الأساسى لا تنعقد ولايتها إلا إذا كان المتهم ينتمى لدولة طرفا فيه أو إذا وقعت الجريمة فى اقليم دولة طرف، ومصر ليست طرفا فى هذا النظام.. والحالة الوحيدة التى تتيح للمحكمة اختصاصا فى هذا الشأن هو قيام مجلس الأمن (لا قدر الله) بإحالة المشكلة إلى المحكمة الجنائية الدولية والمادة 13 تقضى بممارسة المحكمة اختصاصها «إذا أحال مجلس الأمن ـ بناء على الفصل السابع (أى وضع يهدد الأمن والسلم الدولى) ـ حالة يبدو فيها أن جريمة أو اكثر من الجرائم التى تختص بها المحكمة قد ارتكبت».. والجرائم التى تختص بها المحكمة هى جرائم الحرب وجريمة إبادة الجنس والجرائم ضد الإنسانية.. والجرائم التى ارتكبت ضد شباب الثورة المسالم فى ميدان التحرير قد تدخل فى نطاق الجرائم ضد الإنسانية، لأن قانون المحكمة (النظام الأساسى) يفيد بأن «القتل العمد إذا ارتكب فى إطار هجوم واسع النطاق أو منهجى ضد مجموعة من المدنيين وعملا بسياسة دولة أو منظمة فإن ذلك يدخل فى نطاق الجرائم ضد الإنسانية». ولكننى أقول لاقدر الله لأن الطريق إلى ذلك لا يتسنى إلا بعد أن يقرر مجلس الأمن أن الوضع فى مصر قد أصبح يمثل تهديدا للأمن والسلم الدوليين يتطلب اتخاذ تدابير من المجلس، وهذه التدابير لن تقف عند المحكمة الجنائية الدولية، ولكنها تتيح تفعيل باقى مواد الفصل السابع من الميثاق. فلندع الحديث عن المحكمة الجنائية، ولنضع الضمانات التى تكفل محاكمة المجرمين الذين هاجموا شباب التحرير وكل من حرضهم أو مولهم أو ساعدهم أو سهل لهم مهمتهم بأى شكل من الأشكال وفقا للقانون المصرى.