على مدى أكثر من نصف قرن، نامت الكثير من الاقتصادات الخليجية على وسادة النفط، ملتحفة بأسعاره التى أخذت منحنيات متصاعدة أو مستقرة فى أغلب حالاتها، مما مكنها من تحقيق وفورات مالية كبيرة جعلتها تغفل عن أبواق التحذير ورسائل التنبيه التى تدعوها لتنويع بنياناتها الاقتصادية ومصادرها الداخلية. ولأن دوام الحال من المحال، فقد هوت أسعار النفط فى الأسواق العالمية لتفقد ما يعادل 75% من قيمتها خلال العام ونصف الماضيين، حيث هبطت من قرابة 120 دولارا للبرميل فى صيف 2014 إلى نحو 27 دولارا للبرميل خلال منتصف يناير من هذا العام، تاركة بذلك مستقبل الاقتصاد الخليجى فى مهب أسعار النفط ورهينة تقلباتها فى الأسواق العالمية.
وجاء قرار رفع العقوبات الدولية عن إيران أخيرا ليجعل المشهد أكثر ضبابية ويزيد مخاوف الخليجيين من استمرار انخفاض أسعار النفط، حيث قررت إيران فى الثامن عشر من يناير هذا العام زيادة إنتاجها النفطى الحالى والبالغ 2.8 مليون برميل يوميا بمعدل نصف مليون برميل جديد يوميا؛ الأمر الذى سيزيد المعروض العالمى من النفط ويتسبب فى تراجع إضافى فى أسعاره. ومما زاد الصورة قتامة، التباطؤ المستمر فى أداء الاقتصاد الصينى والذى سجل معدل نمو بلغ نحو 7% خلال عام 2015 وهو أدنى مستوى له خلال ربع قرن، مما دعا صندوق النقد الدولى أخيرا للإعلان عن خفض توقعاته لنمو الاقتصادين الصينى والعالمى، ومخاوفه من انتقال عدوى التباطؤ إلى الاقتصادات الناشئة الأخرى، الأمر الذى سيؤدى إلى انكماش الطلب على النفط فى الأسواق العالمية. هذا إلى جانب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى تمر بها روسيا تحت تأثير استمرار العقوبات الاقتصادية الموقعة عليها بسبب الأزمة الأوكرانية والتى من المتوقع أن يحقق الاقتصاد الروسى فى ظلها نموا اقتصاديا سالبا بمعدل ــ1%.
وعلى الرغم من أن ما يمتلكه الخليج من احتياطيات مالية تقدر بنحو 2.5 تريليون دولار قد يمكنه من الصمود فى المدى القصير، فإن هذه الاحتياطات ستتآكل بسرعة فى حال استمرار تراجع الأسعار العالمية للنفط. وبلا شك فستتفاوت هذه التأثيرات السلبية فى كل دولة حسب مدى تخطى سعر النفط فى السوق العالمى سعر التعادل المعتمد فى موازناتها، وكذلك حجم الفوائض المالية فى الاحتياطيات العامة والصناديق السيادية وقدرتها على سد العجز المتوقع فى الموازنة.
***
وقد لاحت بالفعل أعراض انخفاض أسعار النفط فى آفاق الاقتصادات الخليجية واضحة من خلال حزم الإجراءات والتدابير التقشفية التى اتخذتها لتتكيف مع المعطيات الجديدة فى ظل انخفاض الإيرادات العامة وارتفاع عجز موازناتها المالية، فقد رفعت السعودية أخيرا أسعار الوقود والمياه والكهرباء بعد أن سجل عجز ميزانيتها فى عام 2015 رقما قياسيا بلغ 98 مليار دولار. وفى عمان، بلغ حجم عجز الموازنة نحو تسعة مليارات دولار تقريبا، أو ما يوازى نحو 40% من الإيرادات العامة، مما دفعها لتوقع قرض بمبلغ مليار دولار أمريكى مع عدد من البنوك العالمية لتمويل متطلبات الموازنة العامة. أما قطر فقد أعلنت أخيرا عن رفع بنسبة 40% على أسعار الوقود. كما قامت البحرين برفع أسعار البنزين بنسبة تزيد على 50%، بعد أن خفضت الدعم الحكومى عن الديزل والكيروسين خلال شهر يناير من العام الحالى.
وبصرف النظر عن بعض الارتفاعات الطفيفة التى شهدتها أسعار النفط فى الأيام الأخيرة، أو بعض التحليلات التى توقعت أن يتقلص فائض المعروض فى أسواق النفط العالمية خلال 2016 ــ والمقدر بنحو 2 مليون برميل ــ وسط احتمالات بأن تخفض الدول غير الأعضاء بالأوبك من إمداداتها النفطية للسوق العالمية بسبب تراجع الأسعار، مما قد يدفع أسعار البترول للتعافى ومعاودة الارتفاع؛ إلا أن ما شهدته أسواق النفط العالمية فى السنتين الأخيرتين يجعل الدول الخليجية أمام ضرورة ملحة لوضع رؤية استشرافية قائمة على استراتيجية شاملة فى المديين القصير والطويل لإعادة النظر فى سياساتها الاقتصادية. فعلى المدى القصير ــ على سبيل المثال ــ يجب أن تتخذ دول الخليج المزيد من الخطوات الجادة لتقليص النفقات العامة ولاسيما الجارية، ورفع الإيرادات العامة من خلال استحداث نظم ضريبية جديدة ورفع كفاءة تحصيلها وزيادة الضرائب على الأنشطة المالية الريعية والسلع الكمالية والاستفزازية، إلى جانب الإسراع فى اتخاذ خطوات أكثر جرأة فيما يتعلق بإعادة هيكلة برامج الدعم وخصوصا فى مجال الطاقة؛ لما تمثله من عبء مالى كبير على الميزانيات العامة لا يمكن الاستمرار فى تحمله فى حال بقيت أسعار النفط عند مستوياتها المتدنية الحالية. أما على المدى الطويل، فينبغى على دول الخليج القيام بإصلاحات هيكلية لتنويع مصادر دخولها وإيراداتها المالية بالتركيز على القطاعات الحيوية كالصناعة والزراعة والسياحة والتقليل التدريجى من الاعتماد على النفط بحيث يتجه الإنفاق الحكومى نحو المشاريع الإنتاجية أو الخدمية التى تتميز بقيم مضافة مرتفعة للناتج المحلى الإجمالى.
***
إن الحكمة تقتضى أن تبدأ بإصلاح سقف بيتك المتهالك فى الصيف والشمس ساطعة، قبل أن يأتى الشتاء بعواصفه فيصبح الإصلاح متعبا ومكلفا، ولابد أن تعى دول الخليج أن هذه الأزمة ليست كسابقاتها ولن تكون بالعابرة، لا سيما وهى تتزامن مع أوضاع سياسية عصيبة تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، وأوضاع اقتصادية شديدة الصعوبة تمر بها الكثير من الدول المؤثرة فى حالة الاقتصاد العالمى، ولذلك فهى أمام فرصة ــ ربما أخيرة ــ لتطبيق إصلاحات اقتصادية حقيقية قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه نفط ولا تغنى مشتقات بترولية.
أستاذ مساعد للاقتصاد بالجامعة السويدية للعلوم الزراعية
وباحث زائر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة لوند بالسويد