تشير نظرية التلقى بوجه عام إلى اتجاه فى النقد الأدبى يدعو إلى التركيز على عمليات قراءة النصوص الأدبية وتلقيها بدلا من المناهج التقليدية التى تركز على عملية إنتاج النصوص أو فحصها فحصا دقيقا، فالنص الأدبى كما يقول آيزر يحتاج إلى تخيل القارئ حتى ينتج معناه، وهذا القارىء قادر على تطوير تداعيات لا يمكن التنبؤ بها.
فعلى عكس تاريخ الأدب الذى يعلى من سلطة المؤلف إلى الحد الذى جعل النقاد يعتبرون النصوص مستودعات للمعانى، وأن القراءة ليست سوى إفراغ لهذه المستودعات من محتواها وإعلانها للآخرين، فإن أصحاب هذه النظرية يرون أن القراءة يجب أن تكون فعالة وإبداعية، وأن استجابة القارئ على حد تعبير ستانلى فش ليست للمعنى، بل هى المعنى ذاته. كما أن كثيرا ما تنسف التصريحات التى أدلى بها الكتاب حول أعمالهم الخاصة، الفكرة القائلة بأن المؤلف ذاته قد يكون هو القارئ المثالى لإبداعه.
وقد قمت بدراسة تجريبية فى هذا المجال تستطلع استجابات القراء تجاه قصيدة الشاعر محمود درويش «إلى أمى» وجاءت النتائج معبرة بوضوح عن أن المعنى يقف فى منطقة وسطى بين النص وثقافة المتلقي، وبخاصة من خلال تحليل المقطع الثانى من القصيدة الذى يقول:
خذينى، إذا عدت يوما
وشاحا لهدبك
وغطى عظامى بعشب
تعمد من طهر كعبك
وشدى وثاقى..
بخصلة شعر ..
بخيط يلوح فى ذيل ثوبك..
عسانى أصير إلها
إلها أصير ..
إذا ما لمست قرارة قلبك
وقد كان مدهشا أن تتعدد التفسيرات بتعدد القراء، على الرغم من اتفاقها جميعا على أن المرأة فى النص هى رمز للوطن الفلسطينى، ويمكن إجمالها اختصارا فى ثلاثة اتجاهات رئيسية .
الاتجاه الأول: دينى مسيحى، يرى فى هذه المرأة صورة العذراء مريم، وفى ابنها صورة السيد المسيح المخلص، ويرى فى التعميد طقسا مسيحيا، وفى كلمة «طهر» إشارة للعذراء تأسيسا على قوله تعالى: «إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين».
والاتجاه الثانى: دينى إسلامى، يرى فى العشب والكعب والطهر إيحاءات بقصة أيوب كما وردت فى قوله تعالى: «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب» حيث تحمل هذه القصة دلالة المعاناة الشديدة من البلاء ثم النجاة بالإرادة الإلهية. وقد يقف هذا الاتجاه التفسيرى عند المعنى المباشر الجزئى للألفاظ حينا آخر، فيرى فى كلمة « تَعَمَّد» إشارة إلى التَعَمُّد والإصرار على التحرر، وفى كلمة «كعبك» إشارة إلى الكعبة، وأن ربطها بكلمة «طهر» يشير إلى الوضوء، أو إلى الحديث الشريف الذى يقول: «الجنة تحت أقدام الأمهات».
وفى هذا السياق يتراوح التعليق على قول الشاعر «عسانى أصير إلها» بين عدم القبول، أو القبول المشروط بأن النص يعبر عن حلم طفولى ينطلق بعفوية ولا يضع محاذير دينية أو بأن يكون المعنى يتضمن إشارة إلى تحريك الدين للناس من أجل الجهاد، أو القبول التأويلى بأن خلود الشهداء أمر مقرر دينيا وفقا لقوله تعالى: «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون».
والاتجاه الثالث: أسطورى، يرى فى الكعب كعب أخيل، وفى التعميد تعميده فى النهر المقدس حتى يصير إلها، ويرى فى شد الوثاق دعوة لتغطيسه بالكامل تفاديا لمشكلة الأسطورة الأولى حين أمسكت أم أخيل به من كعبه وهى تعمده، فلم يلمس كعبه الماء المقدس، وصار كعبه هو نقطة ضعفه البشرية التى قتل منها. وفى هذا السياق تصبح الألوهية رمزا أسطوريا للقوة، ودعوة لاستمرار حياة الفارس المخلص حتى يتمكن من تحرير وطنه.
والسؤال الآن : أى هذه التفسيرات أقرب لمعنى النص؟
لا يفاضل أصحاب هذه النظرية بين المعانى المتعددة التى تنتج عن تفاعل القراء مع النص، لأن المعنى الناتج عن التفاعل الفردى بين القارئ والنص لديهم لا يطابق النص ولا يطابق القارئ، بل هو حصيلة اندماج معطيات البنية الذهنية للقارئ وتفاعلها مع بنية النص فى لحظة معينة، وربما يعيد القارئ نفسه قراءة النص ذاته فى ظروف أخرى فيستولد منه معانى جديدة غير التى أدركها فى المرة الأولى.