أثير فضولى، والفضول عندى لا يثار إلا لأمر غير عادى. أثارته السرعة الفائقة التى أجاز بها أعضاء البرلمان المصرى عشرات القوانين، بعضها يمس مباشرة أسلوب حياة المواطن، أى الناخب الذى بفضل صوته حصل النواب على مقاعد تحت هذه القبة المجيدة. البعض الآخر من هذه القوانين يمس مصير دولة أقسم القائمون عليها على استعادة هيبتها، فإذا بنواب الأمة يستهينون بالقسم ويقرون قوانين لم تأخذ حقها حتى من أقل مظاهر الاهتمام والهيبة.
***
آثار فضولى هذا النقص الهائل فى فضول النواب المحترمين. لم أتصور أن نائبا اختاره مواطنون ليشرع لهم القوانين لم يدفعه الفضول ليقرأ القوانين المعروضة عليه ويبدى الرأى فيها، لأنه لو أراد وزملاؤه حقا أن يعرفوا ما فى داخل هذه القوانين، لما أقرها المجلس بهذه السرعة. المدهش فى الموضوع أن المواطنين خارج البرلمان تملكهم الفضول أكثر مما تملك النواب، فقضوا الأيام يحثون البرلمان على البدء فى مناقشة القوانين وراح الكثير منهم يراهن على مواقف للبرلمانيين، رافضة أو متسائلة أو فى أحسن الأحوال مثيرة للجدل. خاب أمل المواطن العادى وراح فضوله سدى، فلا أحد تحت القبة اهتم أن يعرف.
***
تعلمت أن اختبر الناس من أسئلتهم. الرجل الإنجليزى الذى كان لا يكف عن السؤال عن الطقس إنسان لم يرغب فى أن يشغل نفسه بهموم الآخرين ومشكلاتهم.
سؤال عن الطقس هو من نوع الأسئلة التى لا تنتظر إجابة ولا تشجع على استرسال فى حوار أو حديث. المصرى العادى يسأل عن «الأخبار» أو عن «الحال» ويذهب فى طريقه لا ينتظر الرد. كثيرون لا يتعبون أنفسهم فى إعداد سؤال يختلف من شخص إلى آخر ومن مناسبة عن أخرى. هذا السلوك الفردى يتحول إلى مشكلة حقيقية حين يصبح سلوكا عاما. مثل هذا السلوك العام كفيل بأن يقود أمة إلى التخلف وربما إلى التهلكة.
تعالوا نتصور معا حصة مدرسية لا يسأل التلاميذ فيها المعلم سؤالا واحدا. الانطباع الذى يمكن أن نخرج به هو أن التلاميذ لم يهتموا بدرس الأستاذ أو أنهم لم يفهموا شيئا مما قال أو ــ وهو الأخطر ــ أن لا أحد فى العملية التعليمية «واخدها جد»، لا يختلف الوضع كثيرا فى حال مجتمع امتنع الناس فيه عن توجيه أسئلة إلى قادتهم السياسيين، أو قرروا فجأة أن تقتصر أسئلتهم على القضايا الهزلية أو التافهة.
***
السؤال مؤشر هام. تستطيع أن تقدر تماما مستوى ذكاء أطفالك من نوع الأسئلة التى يسألونها، وفى حال امتناع الطفل أو تأخره عن توجيه الأسئلة اذهب به فورا إلى الطبيب فالطفل الذى لا يسأل مهددا بأن يتوقف عقله عن النمو، والطفل الذكى هو الذى لا يهدأ عن توجيه الأسئلة، والطفل الأذكى هو الذى يعرف من يختار ليجيب له عن سؤال بعينه أى يعرف لمن يتوجه بأسئلته ومن يتفادى.
باحثتان أمريكيتان من جامعة جونز هوبكنز هما Stahl وFerguson توصلتا من خلال دراسة عينات كبيرة من الأطفال، إلى أن الأطفال عامة تثير فضولهم الأشياء والتطورات غير العادية وغير المألوفة. مثلا يثير فضول أطفال اليوم دمية لا تتكلم، على عكس أطفال العشرينيات من القرن الماضى عندما كانت الدمى لا تنطق. الطفل يسأل عن غير المألوف. هذا ما يفعله، أو يجب أن يفعله، الصحفى حين يقرر إجراء مقابلة أو كتابة تحقيق، هو يستعد بالسؤال غير المتوقع وفى الموضوع غير المألوف.
وفى دراسة قامت بها Melissa Koening فى جامعة منيسوتا الأمريكية وجدت الباحثة أن الأطفال يتفادون الأشخاص الذين يجيبون على أسئلتهم باقتضاب، وكذلك الأشخاص الذين لا يجيبون أو يتهربون من الإجابة، ملاحظة تبدو عادية لأننا كناضجين نفعل الشىء ذاته. ولكن المثير فى هذه الدراسة أنها اكتشفت أن الأطفال يتجنبون الأشخاص الذين لا يجيبون إجابات صادقة. بمعنى آخر يفضل الأطفال توجيه أسئلتهم لمن يبدو أنه يعرف ولديه إجابة ويتفادون من لا يعرف. هم مثلا لا يتوجهون بأسئلة كثيرة إلى عاملة نظافة أو إلى طفل آخر من نفس العمر، كلاهما لا خبرة لديه.
***
جاء فى دراسة لجامعة ميتشيجان أن الأطفال لا يسألون نفس الشخص سؤالا ثانيا إلا إذا حصلوا على إجابة شافية على السؤال الأول، كما أنهم لا يعودون إلى نفس الشخص نفسه لو كانت إجاباته ناقصة أو غير مقنعة، وقد يدور النقاش ساعات بين الطفل وصاحب الإجابة غير المقنعة. أطلقت الباحثة على هذه الظاهرة تعبير «الفضول النقاشى» لدى الأطفال.
***
خلال السنوات القليلة التى قضيتها مقتربا من العمل الصحفى تعلمت أن «السؤال» يمكن أن يكون المفتاح الأمثل لفهم الشخصية، كما أنه يمكن أن يكون المعيار الأدق للحكم على جودة مقال رأى أو تحقيق صحفى أو مقابلة. «السؤال» هو الدافع الأهم للكتابة وهو المبرر وهو المنظم، حتى إن بقى غير معلن وإن غير خاف على عين وخبرة أساطين المهنة وأساتذتها.