يشير مصطلح «الدين المدنى» فى أدبيات السياسة إلى استخدام السياسيين قيم ورموز وأعياد الدين التقليدى (بعد إفراغها من مضامينها الدينية) فى خدمة مصالحهم وأهدافهم، بمعنى الاستفادة من القوة الكامنة فى الدين التقليدى دون التقيد حقيقة بقيمه وتعاليمه.
ولأن الكيان الإسرائيلى نشأ ككيان استعمارى عنصرى لا مثيل له فى تاريخنا المعاصر، فقد سيطرت مؤسساته على معظم المؤسسات الدينية والتعليمية فى البلاد. لكن وبرغم معارضة قادة ذلك الكيان (وكانوا من الحركة الصهيونية العمالية) أى دور سياسى للدين اليهودى التقليدى، إلا أنهم رأوا فى الدين أحد مقومات «القومية اليهودية» التى أوجدتها الحركة الصهيونية من عدم، ولهذا لم يتجاهلوه، بل وجدوا دينا مدنيا جديدا لتحقيق ثلاثة أهداف: توحيد المهاجرين اليهود بإيجاد مجموعة من القيم والمعتقدات المشتركة بينهم، وإضفاء الشرعية على مؤسسات وأهداف الدولة الوليدة، وتعبئة جهود وطاقات الأفراد وراء أهداف ومصالح الدولة.
●●●
أدرك هؤلاء القادة عدم كفاية قيم ورموز اليهودية التقليدية لتحقيق هذه الأمور بسبب أنها تخاطب اليهود أفرادا وجماعات وترى للفرد اليهودى مكانا بالمجتمعات المختلفة فى إطار جماعته التى تعيش كأقلية، كما أن الرب هو المصدر النهائى للسلطة فى اليهودية التقليدية وليس الدولة أو الجماعة. بجانب أن استخدام قيم ورموز الديانة اليهودية بأشكالها التقليدية لن يحظى برضا كل اليهود.
لهذا احتاج الكيان الوليد إلى «دين جديد»، جذوره مستمدة من التقاليد الدينية ولكن ليست مرادفة لها، دين يضع الدولة ومؤسساتها المختلفة مكان الجماعات والمنظمات الدينية. وهذا ما قام به قادة الصهيونية الاشتراكية (التى هيمنت على الحركة الصهيونية) عندما قاموا بإعادة صياغة الكثير من القيم والرموز والأعياد اليهودية التقليدية، بعد إفراغها من مضامينها الدينية، ووضعها فى خدمة الصهيونية.
فمفهوم «الحالوتس» أى الرواد (المستمد من التوراة ومن الحركات الثورية فى روسيا أيضا) صار يعنى فى المصطلح الصهيونى «الاستيطان فى أرض إسرائيل»، وقيمة العمل فى الكيبوتزات الزراعية أضحت تتمتع بمعنى يجاوز مجرد إنجاز مهمة معينة، فقد صارت عملا مقدسا يتطلب الإخلاص والإتقان. بجانب إفراغ المضمون الدينى لنبوءة الخلاص أو الافتداء، كما جاءت فى التوراة وفى أقوال الحاخامات، وتصوير «الأرض كقدس الأقداس للروح العبرية»، كما جرى الحديث عن تقديس العمل من أجل الافتداء، وتحدث البعض عن «عهد جديد مع الأرض» بدلا من «العهد الذى مع الرب»، وعن تقديم الأضاحى إلى الأرض بدلا من تقديمها للرب.
وأعادت الصهيونية تفسير العديد من الأساطير الدينية وابتدعت أساطير جديدة، فقصة خروج بنى إسرائيل مع موسى من مصر أضحت قصة شعب تحرر وتخلص من نير العبودية، وقصة «الماسادا» صارت ترمز لعدم الاستسلام والتضحية بالنفس، وصار قتل وتشريد شعب فلسطين الذى قامت به العصابات الصهيونية المسلحة يستهدف «عدم ظهور ما سادا جديدة»! وصارت الأعياد والرموز المرتبطة بالأرض فى التقاليد اليهودية هى أهم الأعياد القومية، وذلك بعد أن تم إفراغها من مضامينها الدينية وتصويرها على أنها احتفالات قومية تدعو إلى المساواة وحب الأرض والزراعة. والجماعات اليهودية الآتية من شتى أصقاع الأرض أمست تشكل أمة واحدة وشعبا واحدا، والدياسبورا (يهود الخارج) صاروا أصحاب ماضٍ مشرّف، وحاضر ومستقبل واعديْن، أما الأغيار (غير اليهود) فهم أعداء اليهود والحاقدون دوما عليهم.
وبقيام الدولة عام 1948، أدرك قادة الدولة أن الدولة فى حاجة إلى قيم ورموز وأعياد توحد المعسكرات اليهودية المختلفة ولا تكون معبرة عن معسكر بعينه. وهنا تم تصوير المفاهيم والقيم الدينية فى ثياب مدنية، فقيام الدولة حقق نبوءة الخلاص، وعلى حد قول بن غوريون «إننا نعيش فى أيام المسيح»، وتم استخدام مصطلحات توراتية تقليدية مثل «الوصايا العشر» أو «الميثاق مع الرب» فى التعبير عن الولاء للدولة ومؤسساتها بدلا من مضمونها الدينى. ويحدد قادة الدولة، فيما يسمى يوم «الاستقلال»، عبء «الوصايا العشر» بالولاء للدولة. هذا فضلا عن إصرار قادة الدولة ــ وخاصة بن غوريون وشاريت ــ على تحويل أسماء رجال الدولة والجيش والشوارع وأوسمة الجيش إلى أسماء عبرية توراتية.
واستخدمت قصص الأبطال الواردة فى التوراة كنماذج مثالية أمام الجماهير، وخاصة الأطفال، للإيحاء بأن جذورهم تمتد إلى فترة التوراة، وكان على رأس هؤلاء الأبطال يوشع بن نون، الذى تم تشبيهه ببن غوريون، بل وقارنه موشيه دايان بالنبى موسى، وبعض المهاجرين الجدد قبّلوا التراب تحت قدمه وأسموه المسيح. وتبنى الكيان الصهيونى العديد من الرموز والشعارات الدينية، فالعلم القومى للبلاد صار بنفس ألوان شال الصلاة «الطاليت» فى اليهودية التقليدية (وهو نفس علم الحركة الصهيونية)، ورمز الدولة هو «الشمعدان ذو الأفرع السبعة» الذى أقرت تعاليم «الرب» بوضعه فى المعبد، واستخدم الكيان مفهوم «متسفا» (الذى يشير إلى الأوامر الربانية أو الفرائض الدينية)، لفرض أوامره، التى صارت تتمتع بقوة النفاذ المادى عند الاقتضاء. كما تم إحياء موضوع الهولوكوست عام 1952 وصحب عملية تصوير الأساطير تلك.
●●●
وخلاصة القول أن قادة الدولة استطاعوا ببراعة كبيرة وإصرار قوى (وعن طريق العديد من الوسائل كوسائط الإعلام والتعليم ومؤسسات الدولة وتصريحات وبيانات القادة أنفسهم) استخدام الدين فى إضفاء الشرعية على قوانين الدولة وأوامرها. غير أن ممارساتهم السياسية ظلت دوما بعيدة كل البعد عن تعاليم أى دين أو أى أخلاقيات.