حينما كان تعداد مصر 15 مليونا كانت مساحة الأراضى الصالحة للزراعة 7 ملايين فدان.. واليوم أصبحنا أكثر من 90 مليونا وانخفضت المساحة الزراعية إلى 5 ملايين فدان.
وفى الأربعينيات كان الجنيه المصرى يزيد عن الإسترلينى والجنيه الذهب قليلا، وكانت مصر دائنة لبريطانيا بقرابة 36 مليون جنيه إسترلينى، واليوم هى مدينة بمليارات، والدولار قاربت قيمته عشرة جنيهات، وكوريا الجنوبية تصنع ثلاثة أنواع من السيارات العالمية ونحن لا نصنع التوك توك ولا الموتوسيكل بل نستوردهما، والصين تصنع كل الأجهزة الطبية، ونحن لا نصنع حتى قطع غيارها.
أما الصحافة المصرية فهى على وشك الإفلاس القيمى والعلمى والمهنى فضلا عن المادى بعد أن كانت الصحافة المصرية هى الرائدة والفريدة فى الشرق الأوسط كله .
فهناك مجلة أسبوعية شهيرة تصدر عن دار صحفية شهيرة وزعت فى إحدى طبعاتها الأخيرة 13 عددا، وهناك صحف ومجلات مصرية المرتجع منها أكثر من المبيع، وصحف أخرى تخسر بالملايين، ومؤسسات صحفية حجم إنفاقها ومرتبات العاملين بها أكبر بكثير من أرباحها، وتعانى من حالة تردى وانحدار غير مسبوق فى الوقت الذى تبيع فيه بعض الصحف البريطانية فى طبعتها الأولى قرابة 5 ملايين نسخة، أما الكتاب فى مصر فلا يباع من الشهير منه إلا بضعة آلاف، فى حين أن الكتاب فى أوروبا وأمريكا يوزع فى طبعته الأولى عدة ملايين.
لقد بدأ انهيار الصحافة المصرية حينما تم تأميمها أولا ثم تدجينها ثانيا ثم تحول بعض قادتها إلى مجرد أبواق للسلطة يدورون فى فلكها بالحق أو الباطل، وحينما تحول بعض قادتها من أئمة للرأى وسدنة للقلم الشريف إلى ظل لمصالح ضيقة ضاربين عرض الحائط بمصالح الأوطان العظمى.
ووصل الانهيار لدرجة أن بعض رؤساء تحريرها «كان يكتب لهم بدلا من أن يكتبوا»، وكان يقال عن بعضهم «إن عدد الذين يكتبون لهم أكثر من عدد الذين يقرأون لهم».
ولو قارنت الصحافة اليوم بما سبق لهالك الأمر وتملكتك الأحزان، فقد كان المصريون منذ قرابة مائة عام ينتظرون مقالات أعظم صحفى وطنى فى تاريخ مصر عبدالله النديم ملهم الثورة العرابية وقائدها الثانى، وبعدها بكثير لقب العقاد بكاتب الشرق وقد جاوز الثلاثين، وهكذا.
وقديما كان خريج الكتَّاب بإمكانياته البسيطة أقوى فى اللغة العربية والنحو والقرآن من خريج الجامعة الآن، فبعض خريجى الجامعة الآن يخطئ فى أبسط القواعد الإملائية ولك أن تلقى نظرة على خريجى الكتاتيب قديما لتدرك الفارق التعليمى ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: المنفلوطى، العقاد، الرافعى، حفنى ناصف، حافظ إبراهيم، طه حسين، أنيس منصور، عبدالرحمن الشرقاوى، محمد عبدالمطلب، طنطاوى جوهرى، الذى كان مرشحا لجائزة نوبل، عبدالعزيز جاويش، البشرى، سعد زغلول، على الجارم، مصطفى كامل.
ولك أن تتأمل اليوم عزوف كل الأسر الثرية أو العريقة فى العلم عن المدارس الحكومية وذهابها إلى المدارس الدولية، وهذا يعنى أنه لم تمر عشر سنوات على مصر حتى يكون قادتها ونخبتها وزعماؤها من المدارس الدولية التى تخلد الحضارة الغربية وتعرفها وتعظمها أكثر من الحضارة العربية والإسلامية.
أما جامعاتنا فقد خرجت جميعا من التصنيف العالمى، حيث فشت فيها الدروس الخصوصية وتوريث الوظائف وبيع الرسائل الجامعية ورشاوى الرسائل الجامعية وخاصة من بعض دارسى الدكتوراه العرب الذين يعتبرون بعض جامعاتنا اليوم أشبه بجامعات رومانيا وشرق أوروبا قديما.
أن تفخر إذا حصل فى كل عام عدة علماء على نوبل أو جوائز علمية عالمية، فجامعة أكسفورد حصل منها 60 عالما على نوبل.
لقد قصمت الرشوة والفساد ظهر الكثير من مؤسساتنا، وأصبحت المحسوبية علمًا على قضاء المصالح فيها، وعاد بيع الوظائف يطل برأسه من جديد بعد أن اختفى واختفت تسعيرته عقب ثورة 25 يناير.
لقد قابلت مهندسا بسيطا عين فى البترول بعد ثورة 25 يناير دون ثمن لوظيفته المرموقة سوى الكفاءة وأقسم كغيره أنه ما كان لينال ذلك ولو بعد قرن، لولا إنهاء هذه الثورة لمسلسل بيع الوظائف .
لقد حكى لى مدير التوزيع فى إحدى المؤسسات الصحفية الكبرى واقعة يعود تاريخها إلى ما قبل ثورة 25 يناير بسنوات طويلة حيث طبع لرئيس مجلس الإدارة كتابا لم يبع منه إلا قليلا، ولكن مدير التوزيع قال فى نفاق فج لرئيسه: «لقد نفدت الطبعة الأولى»، فأمر بطبع الثانية وصرف مكافآت سخية للجميع، مع أن الطبعة بكاملها فى المخازن ثم لم تبع نسخة من الطبعة الثانية، فصعد إليه قائلا فى نفاق وكذب أشنع: «لقد نفدت الطبعة الثانية».. فقرر صرف مكافآت أخرى.. وهكذا تكرر الأمر حتى وصلت إلى خمس طبعات، موجودة حتى الآن فى مخازن المؤسسة، فقال مدير التوزيع النظيف: ماذا أصنع اليوم فى خمس طبعات موجودة بالمخازن، هل أحرقها، هل أرسلها للمكتبات، هل أبيعها كـ«روبابيكيا»، وكيف أوثق مثل هذه التصرفات رسميا.
مثل هذا النفاق الفج هو الذى أفسد الصحافة والقطاع العام سواء فى عمله أو فى بيعه، وهو الذى أفسد المؤسسات وجعلها هياكل بلا روح، وإدارة بلا إنجاز، وكل موظف همه إرضاء رئيسه بالحق أو الباطل، والحصول على أكبر قدر من السلطة والمال والنفوذ، والبعض يريد سرقة الوطن باسم الدين، والبعض الآخر يريد سرقته باسم الوطنية، والآفة الكبرى التى نعانى منها جميعا هو تفشى الاستبداد والإهمال بدءا من مستوى الأسرة والمدرسة والصحيفة وانتهاء بأرفع المؤسسات، وكل ذلك ينعكس سلبا على التعليم والصناعة والزراعة والبحث العلمى، ومعظم المنتج فى كل هذه المجالات مغشوش، ولذلك لا يُقبل عليه أحد.