فى الأيام القليلة الماضية أقام الحقوقيون والنشطاء عددا من المؤتمرات والندوات، أحدها يدشن حملة ضد قانون الإعدام، والثانى يتضامن مع حركة ٦ أبريل، والثالث يرصد استمرار وزارة الداخلية فى انتهاك حقوق المواطنين بطرق مختلفة.. وغيرها.
وقد جرى العرف فى الشهور الماضية، ومنذ كتابة الدستور المصرى الأخير (٢٠١٤) أن يشار إلى باب الحقوق والحريات للرد على أى انتقادات للدستور، فإذا انتقد أحد مواد «عسكرة» الدستور، وبالذات «دسترة» المحاكمات العسكرية للمدنيين مثلا، كان الرد التبريرى، يليه «بس عملوا شغل فى الحقوق والحريات». وهم فعلا «عملوا شغل»، بس بعضه اتلغى فى النص النهائى (مثل تعريف «التعذيب»، والذى يبدو أن اللجنة أقرت توصيفه حسب التوصيفات الدولية ثم اختفى هذا التوصيف فظل على حاله يعرف «وظيفيا» بأنه ممارسة لإجبار «المعذب» على الإدلاء بالمعلومات والاعترافات، وبالتالى لا يغطى الممارسات الانتقامية، والمريضة، والنزواتية التى يتعرض لها المحتجزون.. المهم، أكيد أى مادة فى الدستور أهميتها الفعلية هى فى الممارسات التى تلهمها والقوانين التى تبنى عليها، وبما أن هناك إحساسا عاما بأن أجهزة الدولة لا تتعامل بالدستور أساسا فقد طلب منى منظمو مؤتمر أمس الأربعاء عن تعذيب المعتقلين أن ألقى نظرة على مواد الحريات فى الدستور وأحاول متابعة تأثيرها الفعلى فى ممارسات أجهزة الدولة.
طبعا أنا لست حقوقية، ولكن ما بدا لى واضحا جليا عند قراءة كل مادة أن المواد فى عالم والممارسات التى نسمع عنها ونراها فى عالم آخر تماما. استشرت بعض الأصدقاء القانونيين فتكرموا بالجلوس معى ومراجعة المواد ومراجعة حدسى وتوضيح بعض الأمور. وأعرض عليكم هنا ــ كما عرضت على المؤتمر أمس ــ بعض مواد الحريات، والتعليق عليها مما خلصنا إليه، وأعتذر مسبقا عن التفاصيل ففيها لب الموضوع:
مادة (٥٤) (الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق. ويجب أن يبلغ فورا كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويمكن من الاتصال بذويه وبمحاميه فورا) لا يحدث أى من هذا المذكور أعلاه. (وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته) لا يلتزم بهذا. (ولا يبدأ التحقيق معه إلا فى حضور محاميه، فإن لم يكن له محامٍ، ندب له محاميا)، يحدث كثيرا جدا أن يتم التحقيق بدون محام، حتى فى حالات القصر، بل إن وجود المحامين فى أغلب الوقت يكون رغما عن جهات التحقيق التى تظهر لهم عداوة واضحة. وقانون الإجراءات الجنائية يسمح بالتحقيق بدون محام فى حالات الاستعجال أو الخوف على الأدلة، وإجراء التحقيقات فى معسكرات الأمن ووحدات الجيش يحول دون ندب محامين فى الحال (فى حالة عدم وجود محام للمقيدة حريته) بسبب عدم تواجد المحامين الطبيعى فى المكان، أما فى مبانى المحاكم المعتادة فالمحامون متواجدون ويسهل ندبهم.
(وينظم القانون أحكام الحبس الاحتياطى، ومدته، وأسبابه، وحالات استحقاق التعويض الذى تلتزم الدولة بأدائه عن الحبس الاحتياطى أو عن تنفيذ عقوبة صدر حكم بات بإلغاء الحكم المنفذ بموجبه)، فى الواقع أن الرئيس عدلى منصور قام بإلغاء القانون الذى كان يحدد سنتين كأقصى مدة حبس احتياطى، ولم يوضع بعد قانون ينظم التعويض. وأحكام الحبس الاحتياطى تأتى دائما بدون أسباب فلا يعلم الشحص لماذا هو محبوس احتياطيا.
مادة (٥٥) (كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيا أو معنويا، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا فى أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيا وصحيا). أربع كلمات فقط تكفى للتعليق على هذه الفقرة: عربة ترحيلات سجن أبوزعبل، وهى التبدى الأعنف لما يصفه المحتجزون عن التعذيب، والتعليق، والكهربة، والتحرش، وهتك العرض، هذا فضلا عن التكدس الشديد، وقلة الهواء، وقذارة أماكن قضاء الحاجة، وغيره وغيره و...
مادة (٥٦) (السجن دار إصلاح وتأهيل. تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائى) نسأل هنا: ماذا يعنى «الإشراف» إن كانت مصلحة السجون هى، مثلا، التى تحدد الزيارات، وهى التى تحدد مكان إيداع الشخص المحتجز. (ويحظر فيها كل ما ينافى كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر) التقارير والخطابات تهرب من السجون كل يوم، وبها وقائع تعذيب، وقد سبق أن نشرنا بعضها فى هذا الموقع. وما موقف الإشراف القضائى من تكين الطلبة المحبوسين على ذمة التحفيف من تأدية امتحاناتهم؟ ٥ مايو، معتقلو جامعة القاهرة:
صلاح الدين عبدالخالق: بص يا ريس.. أنا ما بعرفش اتكلم قانون.. بس انا عايز اتكلم... انا موجود هنا لمجرد ان ظابط قبض عليا غلط... امتحاناتى ومستقبلى أنا و٤٠ من زمايلى ضاعوا بسبب غلطة.
القاضى : يابنى أنا قدامى ورق وباشتغل عليه.
النتيجة: ١٥ يوم تجديد حبس للطلاب معتقلى جامعة القاهرة.. للمرة الحادية عشرة!!
٦ مايو:
طلب تمكين من حضور الامتحانات وتصريح من النيابة العامة والمحامى العام وموافقة مصلحة السجون وإخطار لإدارة الجامعة بتمكين الطلاب من حضور امتحاناتهم وعمل لجان امتحان خاصة فى سجن طرة والمراقبين راحوا طرة فعلا بس إدارة السجن مانقلتش الطلاب من وادى النطرون فلم يمتحنوا.
مادة (٥٧) (للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائى مسبب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التى يبينها القانون). وحتما سيتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أنشطة الأستاذ عبدالرحيم على، وتسجيلاته، التى استخدمت، مثلا، كدليل فى القضاء المستعجل/ القاهرة فى حظر ٦ أبريل، ولم ير القاضى ضرورة حتى لاختصام أحمد ماهر أو استدعائه.
مادة (٥٨) (للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب، يحدد المكان، والتوقيت، والغرض منه، وذلك كله فى الأحوال المبينة فى القانون، وبالكيفية التى ينص عليها، ويجب تنبيه من فى المنازل عند دخولها أو تفتيشها، وإطلاعهم على الأمر الصادر فى هذا الشأن). ونذكر شهادة السيدة منال بهى الدين حسن حول ليلة القبض على زوجها، علاء عبدالفتاح، وبالذات حين طلبت أن ترى إذن النيابة: «وكأن إذن النيابة ده أقذر شتيمة بالأم.. هاجوا علينا.. وأنا اتلم عليا تلاتة أربعة وجرونى من شعرى ورمونى على الكنبة وابتدوا يضربونى بالأقلام. واحد مسكنى من شعرى وواحد مسكنى من دراعى اليمين.. «يا شـ... طة يا بنت الشـ... طة».
مادة (٥٩) (الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها، ولكل مقيم على أراضيها). مرة أخرى نذكر سيارة ترحيل أبو زعبل، واشتباكات أسوان حيث لم تتدخل الدولة إلا بعد سقوط أعداد من القتلى، وتعامل الدولة مع مواطنى سوريا الذين لجأوا إلى بلادنا ثم لاقوا من القهر والمذلة ما جعلهم يفضلون مواجهة الموت فى البحر عن البقاء فى ضيافتنا..
مادة (٦٠) (لجسد الإنسان حرمة، والاعتداء عليه، أو تشويهه، أو التمثيل به، جريمة يعاقب عليها القانون). فى الحقيقة وجدتنى أتعامل مع هذه المادة كنوع من المزحة لبعدها بأعوام ضوئية عن حياتنا حيث تتصرف الأجهزة الأمنية على أن جسد الإنسان هو سبيلها وأداتها لكسر روحه، وإن لم يكْفِ جسده فيمكن الالتجاء إلى أجساد أحبائه وذويه.
مادة (٦٣) يحظر التهجير القسرى التعسفى للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم. وهنا طبعا نذكر الدويقة والمقطم ومحاولات القرصاية ورملة بولاق وكذلك التهجير القسرى للعائلات المسيحية من قرى الصعيد عقب الاشتباكات الطائفية.
مادة (٦٧) (لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى) ونحن هنا نذكر قضية كرم صابر، والتى لم تأت عن طريق النيابة والتى تم حبسه فيها فى الدرجة الأولى والقضية الآن فى الاستئناف، وللمزيد من المعلومات حول تعارض هذه القضية مع الدستور يمكن مراجعة كتابات الزميل الكريم والمتحدث باسم لجنة الدستور، د. محمد سلماوى.
مادة (٦٨) (المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدا). فى ابريل ١٩٩٣، فى الإسكندرية، وفى جلسة تظلم من قرار اعتقال، دفع المعتقل بعدم دستورية البند الأول من المادة ٣ من قانون الطوارئ، وقبلت المحكمة جدية الدفع فرفعت دعوى أمام المحكمة الدستورية فى نفس الشهر. والبند الأول من المادة ٣ من قانون الطوارئ يمنح وزير الداخلية سلطة القبض والاعتقال وتفتيش الأماكن بقرارات إدارية وبدون إذن قضائى مسبب. وبعد عشرين عاما، فى ٢ يونيو ٢٠١٣، حكمت المحكمة الدستورية فعلا بعدم دستورية النص، ونشر هذا الحكم فى الجريدة الرسمية فى اليوم التالى: ٣ يونيو ٢٠١٣. وقانون المحكمة الدستورية يستوجب على النائب العام اعتبار الأحكام الجنائية الصادرة استنادا لمادة غير دستورية وكأنها لم تكن. وهنا ستتبادر إلى ذهن القارئ بعض الأسئلة، نشاركه فيها: لماذا لم تتخذ المحكمة قرارا فى هذه الدعوى لمدة عشرين عاما؟ ثم حين اتخذت القرار تم نشره بهذه السرعة غير المسبوقة؟ وهل كان لهذا أى علاقة بالسياق التاريخى (وكان د. محمد مرسى، رئيس الجمهورية وقتها، قد استعمل هذا القانون فى أحداث بورسعيد)؟ وبشكل مباشر بالنسبة لموضوع المعلومات: لماذا لم يعلن النائب العام على المجتمع - وقد مرت سنة تقريبا على القرار - كم قضية مسها هذا النص غير الدستورى، سواء فى القضاء العادى أو العسكرى؟ وهل لهذا الصمت علاقة بأن الإعدامات التى نفذت فى فترة حكم الرئيس الأسبق، حسنى مبارك، من أحكام أمن الدولة طوارئ أو الأحكام العسكرية، استندت إلى هذا النص؟
مادة (٩٦) (المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة). لا تعليق.
الموضوع أمام القارئ، لكل مثال ضربته هناك مئات يمكنك العثور عليها بسهولة. أعتقد أنى لست بحاجة لإضافة أى شىء.
أكتفى بملحوظتين: الأولى هى أن الكثير من المواد بحاجة إلى قوانين مكملة لتفعلها، وقد نص الدستور على أن القوانين المكملة للدستور «تصدر.. بموافقة ثلثى عدد أعضاء المجلس. وتعد القوانين المنظمة.. للحقوق والحريات الواردة فى الدستور، مكملة له». والمتوقع أنه سيكون من الصعب الحصول على هذين الثلثين المتوافقين فى البرلمان القادم. وربما كان هذا من أسباب الإسراع فى إصدار قانون التظاهر ــ المرفوض شعبيا ــ قبل الاقتراب حتى من انتخابات البرلمان. والثانية عندى تساؤل حقيقى حول ما إذا كانت عقيدة القضاء أو الشرطة تتضمن معرفة واعتبارا للدستور؟ أم أن الدستور بالنسبة لهم كائن يعيش فى فضائه الخاص ولا علاقة له بعملهم اليومى؟
أتصور أن على من يريد أن يقيم الدولة المصرية ويعيد لها هيبتها، أن يبدأ فى اتخاذ الإجراءات التى من شأنها أن تعيد ثقة المواطن فى العدالة، وسيكون هذا أفيد له وللجميع من ملاحقة الشباب والنشطاء والصحفيين. فحين يقر الشعب بأهمية «الأمن» و«الاستقرار» فالمفهوم ضمنا أن هذا يكون على أساس قوى من العدالة، وليس على أساس هش من القهر وقوة السلاح.