نحن والكراسى - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحن والكراسى

نشر فى : الأربعاء 8 يونيو 2011 - 8:48 ص | آخر تحديث : الأربعاء 8 يونيو 2011 - 8:48 ص

 للتظاهر والخروج إلى الميادين والمشاركة فى الهتافات وقوفا وإلقاء الخطب والتجول بين التجمعات فائدة جانبية لا نتحدث كثيرا عنها. إن أكثر الناس الذين كانوا فى الميدان الجمعة الفائتة أو الجمعة الأسبق كانوا سيقضون اليوم كله أو معظمه على كراسى أو أرائك فى منازلهم لو لم يذهبوا إلى الميدان. هؤلاء سنحت لهم الفرصة ليتحركوا ويمارسوا بعض المشى وكثيرا من الوقوف، ومعظمهم قضى اليوم كله أو أكثره دون أن يجلس.

●●●●


كانت فرصة لأفكر فى عادة سيئة أغلبنا يمارسها بغير وعى كاف. فكرت فى أننا صرنا نقضى حياتنا مربوطين إلى كرسى أو آخر. وإذا تحركنا فلننتقل من كرسى ثابت إلى كرسى متحرك ومنه إلى كرسى هزاز وفى أحسن الظروف إلى أريكة لنعود بعدها إلى الكرسى الذى من فوقه نرأس ونقود ونكتب ونتكلم ونحاضر ونستمع ونشاهد ونأكل ونفكر. خطر ببالى أنه ربما أصبحنا هدفا فى خطة نسجت خيوطها وتنفذها شركة عالمية متخصصة فى صناعة الكراسى.

لم يعد مرغوبا فيما يبدو أن نقف طويلا أو نمشى أو لعله لم يعد مرغوبا أن نترك الكرسى ولو لثوان. لاحظ مثلا أنه لم يعد جائزا أو مرغوبا فيه أن نتمشى فى الطائرة كما كنا نفعل ونتعمد أن نفعل وبخاصة عندما تكون الرحلة مملة لسبب يتعلق بالراكب الجالس إلى جوارك أو لأى سبب آخر. كنا فى زمن يسبق عصر الإرهاب ننتظر لفارغ صبر إشارة فك الحزام الذى يربطنا على المقعد.

هذه الإشارة توقفت عن العمل فى أغلب الطائرات التى استضافتنى خلال السنوات الأخيرة. ثم أضافوا إلى هذا العطل الفنى المتعمد تجديدا رأسماليا فى صناعة الطيران حين قرروا تسيير عربة لبيع سجائر وسيجار وكحوليات وعطور ومجوهرات معفاة من الضرائب الجمركية تلحق بها على الفور عربة أخرى تحمل المشروبات والمرطبات. العربتان كفيلتان بسد ممر الطائرة وقمع أى راكب يفكر فى أن يتمشى. وعلى كل حال لا يتوقف طاقم الطائرة عن تقديم النصيحة أحيانا بتجنب المشى وإن لم تنفع النصيحة لجأوا إلى الزجر والتعنيف.

فى ذهن كل منهم أن الراكب الذى يغادر مقعده يصبح على الفور محل شك وريبة إلى أن يعود إليه.

ولما كان الهدف إبقاء الضيف ملتصقا بكرسيه أطول فترة ممكنة قامت دور السينما بإضافة وظائف أخرى إلى المقعد الذى يجلس فوقه المشاهد. نرى المقعد وقد أعيدت هيكلته بحيث يصلح كمائدة طعام إلى جانب صلاحيته للجلوس ومشاهدة الأفلام. كنا فى سن الشباب ننتهز فرصة الاستراحة لنخرج ونمشى ونأكل ونشرب لنعود إلى مقاعدنا بعد أن تطفأ أنوار الصالة ويبدأ عرض «التيترات». الآن لا نغادر المقعد فما نريده ونحتاج إليه يأتى إلينا لنتناوله أو نمارسه جالسين.

هل حسبت كم دقيقة مشيتها خلال اليوم. تقود السيارة أو تقاد جالسا ساعة أو ساعتين وتتركها وتترك مقعدك فيها لتستقل المصعد أو تصعد درجات معدودة على الدرج وتسرع الخطى متلهفا نحو مقعد هو أيضا فى شوق زائد لاستئناف علاقة انقطعت خلال الليل.

ندرك جميعا الأخطار الناجمة عن هذه العلاقة الوثيقة جدا مع الكرسى. أعرفها جيدا منذ كنت أعانى فى شبابى من آلام فى فقرات الظهر نتجت عن انزلاق خلال مباراة فى لعبة البولينج. لم يبق من الألم إلا ما تذكرنى به لحظة الوقوف بعد طول قعود. ينتابنى مثل غيرى من الزملاء، والزميلات بشكل خاص، تأنيب ضمير وأتعرض لنظرات ساخرة أو شامتة كلما برزت إضافة إلى وزنى. وللحق أقاوم، وإن بصعوبة، فللمقعد جاذبية لا تهزم بسهولة.

أنهض أحيانا وأخرج من غرفتى وأدق باب غرفة زميلى فى الغرفة المجاورة وعلى وجهى مسحة اعتذار عن زيارة بغير ميعاد أو ترتيب أو استئذان. أو أذهب إلى الحمام، على بعد 6 خطوات ذهابا و6 خطوات إيابا، بدون دافع أو رغبة أو حاجة، وكثيرا ما خرجت من الحمام كما دخلت. وأحيانا أدور فى أرجاء الطابق متذرعا بأسباب واهية أو مستفسرا عن معنى كلمة أو مختبرا إحصائية معينة كان يمكن أن أجد الإجابة عنهما عند جوجل بدلا من إزعاج الناس بأسئلتى. وكثيرا ما فاجأت عمال البوفيه بزيارة لأطلب الفنجان السادس أو السابع من الإسبريسو التى أدمنها كالكرسى الذى أجلس عليه.

●●●●


اعتقدت لفترة أن يكون الكمبيوتر سببا من أسباب التزامى المتزايد الجلوس على كرسى لمدد أطول، فاشتريت اللاب توب قبل أن أكتشف بعد تجارب بدت هزلية أننى لن أقوى على استخدامه لمدة طويلة واقفا. تذكرت أيام المذاكرة والكتاب فى يدى آخذه معى إلى الشرفة وأدور به على غرف البيت.

●●●●

 الأمر بالفعل جد خطير فعلاقتنا بالكرسى تجاوزت حدود العلاقة الطبيعية بين الإنسان والجماد. نصيحة أنقلها إلى كل المتورطين فى علاقة غير طبيعية بالكراسى أن يكثروا من زياراتهم إلى ميدان التحرير أيام الجمعة قبل أن ينتبه أحد الباعة المتجولين فيصف الكراسى صفوفا متراصة ليجلس عليها المتظاهرون من الثوار والمتفرجين وذوى المصالح ويفقد الميدان أحد أهم مميزاته: خلوّه من الكراسى.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي