لكى تُثمر شجرة النمو! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 5:14 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لكى تُثمر شجرة النمو!

نشر فى : السبت 8 يونيو 2019 - 10:25 م | آخر تحديث : السبت 8 يونيو 2019 - 10:25 م

كلما خرجت التقارير الحكومية بنتائج توضح أن الاقتصاد المصرى أصبح يحقق معدلات نمو طيبة، وأنه بات ينتج كميات متزايدة من السلع والخدمات؛ تعالت أصوات تقدح فى مصداقية هذه التقارير، وبرزت تحليلات تشير إلى أن هذا النمو مجرد نمو كمى لا يُرى أثره فى الاقتصاد الحقيقى، ونمو لا يشعر به عموم المستهلكين.
والواقع، فإن النمو الاقتصادى مثله كمثل الشجرة؛ منها ما هو مثمر، ومنها دون ذلك. وعلى الرغم من أننا لا ننكر أن جميع الأشجار نافعة بشكل أو بآخر، إلا أن الإجماع قائم على أن الأشجار المثمرة هى أكثرها نفعا وأدومها أثرا. وفى الوضع الراهن للاقتصاد المصرى، هل صحيح أن نموه الاقتصادى يعتبر كالشجرة غير المثمرة كما يحاج البعض؟ وإذا كان ذلك كذلك، فكيف السبيل لكى تثمر شجرة هذا النمو؟

***
ثمة حقيقة اقتصادية واضحة للعيان، وهى أن الاقتصاد كعلم اجتماعى أضحى غارقا فى الأرقام والإحصاءات، وقلما تجد باحثا يستطيع أن ينأى بنفسه عن الاعتماد على هذه الإحصاءات وهو يعد بحوثه ومقالاته وتحليلاته. وإذا كنا على يقين أن الإحصاءات الاقتصادية تعانى من غياب الدقة فى حالة الاقتصادات النامية، فلا بأس لدينا من الاعتماد عليها ــ بقدر محدود من الثقة ــ فى فهم وتحليل التوجهات العامة لهذه الاقتصادات. فعندما تخبرنا تلك الإحصاءات بأن معدل النمو الاقتصادى المحقق فى إحدى الاقتصادات النامية قد وصل لمستوى مرتفع فى فترة ما، فنحن نفهم من ذلك أن حجم الاستثمارات المنفذة قد زاد فى هذا الاقتصاد فى الفترات السابقة عليها، ونفهم كذلك أن القدرات الإنتاجية لهذا الاقتصاد آخذة فى التوسع. ولكننا مع هذه النتائج لا نستطيع معرفة أثر هذا النمو على المجتمع من مجرد تحديدنا للمعدل الذى نما به الاقتصاد. فنحن بحاجة للعديد من الإحصاءات المكملة لإحصاء النمو الاقتصادى، كى نحسب آثاره الاقتصادية والاجتماعية.
وبفضل التطور فى مجال بحوث النمو والتنمية الاقتصادية، فقد أوتينا من العلم ما يمكننا من حساب الآثار الكلية للنمو الاقتصادى. ذلك أن البحوث الاقتصادية الجادة لا تعتمد على إحصاءات النمو الاقتصادى وحدها، لكنك تجدها تتوسل بإحصاءات الدخل، والإنفاق، والتوظف، والإنتاجية، فى معرفة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للنمو الاقتصادى. أى أن البحوث التى يمكن الاعتداد بنتائجها تحاول رسم الصورة الكاملة لشجرة النمو الاقتصادى، كى تحدد من خلالها ثمرات هذه الشجرة، أو تثبت أن هذه الشجرة من النوعية غير المثمرة.
والسؤال الذى يفترض أن يكون قد سيطر على ذهن القارئ الآن هو: ما هى يا ترى الثمار التى يمكن أن تخلقها شجرة النمو الاقتصادى؟
إننا إذ نقول إن لشجرة النمو الاقتصادى ثمرات، فنحن نقصد بتلك الثمرات الوظائف المنتجة التى يخلقها النمو الاقتصادى، ونقصد بها أيضا الاستقرار الذى يحدث فى المستوى العام للأسعار نتيجة لهذا النمو، ونقصد بها كذلك التحسن الذى يصيب الخدمات العامة والاجتماعية، كما نقصد بها أن يقطع الاقتصاد خطوات جديدة فى طريق الاعتماد على الذات. فكل نمو اقتصادى يتمخض عنه زيادة الطلب على العمالة الوطنية الماهرة، ويزيد من متوسط الأجر الحقيقى لهذه العمالة، ويكسبها مهارات إنتاجية جديدة، ويكبح جماح الغلاء فى الاقتصاد، ويقضى على المسببات الداخلية والخارجية لهذا الغلاء، ويحافظ على علاقة مستقرة بين الأجور والأسعار، ويحسن من مستوى الخدمات العامة والاجتماعية التى ينتجها الجهاز الحكومى، ويعين الاقتصاد على السير بخطى حثيثة فى طريق الاعتماد على الذات، هى عين ما نقصده بثمار شجرة النمو. ولا شك لدينا فى أن كل شجرة نمو اقتصادى تظهر على أغصانها تلك الثمرات، تندرج ضمن أشجار النمو المثمرة؛ أما أى شجرة نمو لا تخلق هذه الثمرات، لا نعتبرها من الأشجار المثمرة، حتى ولو كانت ذات أغصان وارفة.
على أننا إذا أردنا أن نُزيد هذا الأمر وضوحا، وبحثنا فى الأسباب التى تجعل بعض أشجار النمو الاقتصادى مثمرة، ودرسنا الأسباب التى تحول دون أن يثمر البعض الآخر، فسنجد ضالتنا فى تحليل التجارب التنموية الناجحة. وفى أغلب هذه التجارب، ستجد أن أولى الأسباب المحفزة لإثمار شجرة النمو هى أن تُسقى بالماء العذب الذى تولده البيئة المحلية. وبتطبيق هذا المنطق على الوضع الاقتصادى، فإن الادخار المحلى الإجمالى يمثل هذا الماء العذب. ذلك لأنه عندما تُروى شجرة النمو بهذا الادخار، وعندما ينتج من جهد محلى شبه خالص، حينها لن تعانى شجرة النمو من الاضطراب الذى ينتج من قصور هذا الادخار، وستكون قادرة على الإثمار دونما التعرض لتهديد خارجى ذى بال.
وعندما نجحت السياسات الاقتصادية فى توفير الادخار المحلى الضرورى لإثمار شجرة النمو فى التجارب الناجحة، ولكى تضمن أن تستمر هذه الشجرة فى إنتاج الثمار الطيبة، وقع على عاتقها أن تضمن تحويل هذا النمو للنوعية العادلة اجتماعيا، والمتوازنة جغرافيا، والذكية قطاعيا. فأما عن النمو العادل اجتماعيا، فقد لجأت التجارب الدولية الناجحة فى دول «النمور الآسيوية» مثلا لوضع برامج مالية تخصم حصة معتبرة من النمو الذى تحققه الطبقات الغنية، وتعيد توجيهها لبرامج محاضرة الآثار الاجتماعية السلبية للغلاء، ولبرامج الارتقاء بالطبقات الفقيرة فى المجتمع. كما استخدمت شطر منها فى تحسين الخدمات العامة والاجتماعية التى تنتجها الحكومة.
وأما عن النمو المتوازن جغرافيا، فإن السياسات الاقتصادية التى تهدف لإثمار شجرة النمو الاقتصادى لا تترك هذا النمو يتحقق فى بعض الأقاليم الجغرافية دون غيرها، ولا تدع أثاره تتراكم فى عدد محدود من هذه الأقاليم. وفى نفس التجارب الدولية الناجحة، لن تجد العاصمة مثلا تولد معظم النمو الاقتصادى، أو تخلق وحدها فرص العمل المنتج، أو تجدها تستحوذ على معظم نفقات التطوير المرصودة فى موازنة الحكومة؛ بل إن الاستثمار المتوازن جغرافيا قد ساهم فى علاج مشكلات التركز الجغرافى تلك، وأن السياسات المالية الرشيدة ساهمت فى توزيع الإنفاق العام وفق منهجية منضبطة للتطوير الجغرافى المتوازن، أو دفع بعضها للتحول التدريجى ناحية «الفيدرالية المالية» (يقصد بها أن يحصل كل إقليم جغرافى على كل ما يولده من موارد مالية مضافا عليها حصة من الموارد العامة للدولة).
أما عن السياسات الاقتصادية التى جعلت النمو المحقق من النوعية الذكية قطاعيا، فإن نفس التجارب الناجحة توضح لنا أن النمو المولد فى قطاع الصناعة التحويلية تحديدا، والنمو الذى ينتج عن بناء طاقات صناعية جديدة، والنمو الذى ينتج من القضاء على الطاقات الزراعية والصناعية والخدمية المعطلة فى الاقتصاد، والنمو الذى يتزامن معه بناء وتطوير القاعدة التكنولوجية الوطنية، والنمو الذى تواكبه زيادة نسبة المكون المحلى فى الصناعة الوطنية، والنمو الذى يتمخض عنه الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية، هو ذاته النمو الذكى الذى يضمن لشجرة النمو أن تعلو وترتقى، ويضمن لها أن تتحول للنوع المنتج للثمار الطيبة.
***
إذا عدنا الآن لشجرة النمو المصرية، وإذا سلمنا بنتائج التقارير الحكومية التى توضح أن هذه الشجرة تشق طريقها علوا لمعدل يدور حول 5% سنويا، فلا أظننا نخطئ إذا نسبنا جزء مهم من هذا النمو للطفرة الحاصلة فى البنية التحتية والرقعة العمرانية فى الأقاليم الجغرافية المصرية، أو إذا نسبنا جزء آخر منه لزيادة معامل «الاستهلاك إلى الدخل»، والذى ارتفع بسبب التهام الزيادة فى الأسعار لمعظم الدخل الأسري؛ كما أننا لا نتردد فى أن ننسب جزء إضافى من هذا النمو للتراجع فى حجم الواردات المصرية بفعل السياسات التجارية الكابحة لها. ولكننا، مع كل ذلك، إذا أردنا أن نحدد كُنه شجرة النمو المصرية، أو أن نقف على مدى قدرتها على الإثمار، فلا بديل عن إخضاعها للتقييم الاقتصادى الذى عرضنا أبعاده آنفا.
ومهما يكن من أمر، وبالاعتماد على ما تتيحه الإحصاءات الحكومية الدورية عن بيانات العمالة والأجور والأسعار، وعلى مشاهداتنا للتطور فى مستوى الخدمات الحكومية، يمكننا القول بأن النمو الذى يحققه الاقتصاد المصرى هذه الأيام قد نزل بمعدل البطالة الإجبارية لما دون حاجز 10% من قوة العمل، وأن هناك اتجاه ملحوظ للتحول الرقمى فى إنتاج وتوزيع الخدمات الحكومية. ويعنى ذلك وجود ثمرتين من ثمرات شجرة النمو. غير أن العلاقة غير المستقرة بين مستويات الأجور والأسعار فى الأسواق، وغياب المؤشرات التى توضح زيادة اعتماد الاقتصاد المصرى على نفسه (يمكن قياسها من خلال مؤشرات التكنولوجيا الصناعية والتجارة الخارجية)، توضح أن شجرة النمو المصرى لا تنتج هذا النوع من الثمرات. ومحصلة ذلك أن الاقتصاد المصرى يمتلك شجرة نمو من النوعية شحيحة الثمر، وأن هذه الشجرة لو تركت على وضعها الحالى ستظل ضعيفة الفائدة ومحدودة الأثر.
وفى ظروف الاقتصاد المصرى الحالية، وبما أن الجهد الادخارى المحلى مستمر على حالته المتواضعة، فإننا إذن أمام معدل نمو يعتمد ــ فى جانب مهم منه ــ على مصادر مشكوك فى استدامتها، وبما يقلل من قدرة شجرة النمو المصرية على الإثمار. فنتيجة لالتهام نفقات خدمة الدين العام لحصة مهمة مما تحققه شجرة النمو الاقتصادى، سيتعين على صانع السياسة الاقتصادية أن يجاهد فى دعم هذه الشجرة، كى تتغلب على خصائصها الحالية، وحتى تزداد قدراتها الذاتية على الإثمار.
***
بعدما تقدم من تحليل، وفى ضوء ما انتهى إليه الرأى بأن شجرة النمو الاقتصادى المصرى شحيحة الثمر، يمكننا بثقة تامة أن نؤكد أنه لكى تثمر هذه الشجرة فلا حيلة أمامنا إلا اقتفاء الخطوات التى تركتها لنا التجارب الدولية صاحبة أشجار النمو المثمرة. ونقطة البداية فى هذه الخطوات هى دعم الجهد الادخارى للاقتصاد المصرى، أما باقى هذه الخطوات هى أن نجعل بوصلة النمو عادلة اجتماعيا، ومتوازنة جغرافيا، وذكية قطاعيا. فتلك الخطوات وحدها كفيلة بألا نحصل على شجرة ضخمة وجوفاء للنمو الاقتصادى؛ فالشجرة الضخمة تعطى ظلا أكثر مما تعطى ثمرا كما يقول المثل!

أكاديمى وخبير اقتصادى

 

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات