الثورة ومطر.. وإعادة فرز المكانات - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الثلاثاء 25 فبراير 2025 10:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الثورة ومطر.. وإعادة فرز المكانات

نشر فى : الجمعة 8 يوليه 2011 - 9:08 ص | آخر تحديث : الجمعة 8 يوليه 2011 - 9:08 ص
عندما كتبت فى الأسبوع الماضى عن جوائز الدولة نشر ملحق (الشروق) الثقافى فى العدد نفسه الذى نشر فيه مقالى تحقيقا عن إحياء الذكرى السنوية الأولى لرحيل الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر الذى كما يقول عنوان التحقيق «تجاهلته الدولة حيا وميتا». فكان ما جاء فى التحقيق تأكيدا لما شكوت منه فى مقالى من أن الثقافة المصرية، والرسمية منها خاصة، لم تعرف بعد أن مصر قد قامت فيها ثورة كبيرة ونبيلة، وأن هذه الثورة التى شهد لها العالم، ولا تعترف بها فيما يبدو وزارة الثقافة المصرية، تتطلب تغييرا جذريا وشاملا فى الكثير من أولويات الثقافة وأجندتها وممارساتها وخياراتها. وتتطلب أول ما تتطلب عملية إعادة فرز كاملة للمشهد الثقافى الراهن فى مصر، يتم فيها تمحيص المكانات والأدوار، والتشكيلات الثقافية المختلفة. فقد كررت فى أكثر من مقالة، ومنذ أن عين عمادالدين أبوغازى وزيرا للثقافة، أهمية العبء الريادى الواقع على الثقافة فى هذا المجال، لأنها كمجال نوعى لها خصوصيتها الناجمة عن اتصالها بأرقى منتجات العقل الإبداعى المصرى فى مجالات الآداب والفنون من ناحية، ولأنها مستودع القيم الأخلاقية والفكرية، والضمير الحارس لهذه القيم من ناحية أخرى. وهذه الخصوصية تضع عليها عبء الريادة، وضرورة حمل مشاعل الثورة والتنوير والتغيير، لا أن تكون موئلا للثورة المضادة، أو مرتعا للتباطؤ الذى أصبح فى مصر صنو التواطؤ.

هذه المسئولية هى التى تدفعنى من جديد للمطالبة بأن ترود الثقافة حركة التغيير وتقود مسارها من أجل مصر المستقبل ومن أجل انقاذ الثورة من مخططات الثورة المضادة التى تنهال عليها من الخارج والداخل، تحيط بها من كل صوب، وتنطلق ضدها من كل موقع. فلو أخذت أجندة الثورة فى التحقق فى مجال مهم مثل الثقافة، بتطهير مؤسساتها أولا من كل ذيول النظام الساقط والفاسد، تحقيقا لشعار الثورة الأول «الشعب يريد إسقاط النظام»، وبتأسيس نظام بديل ينهض على شعار الثورة الآخر «كرامة، حرية، عدالة اجتماعية» فإن هذا التحقق لا يشكل دافعا للمجالات الأخرى لمجاراته، ووازعا لها لإحداث تغييرات جذرية فى مجالاتها فحسب، ولكنه يرسل رسائله التطمينية للشعب وللثوار معا، بضرورة أن يعمل كل فى مجاله كى تحقق الثورة أهدافها. فيعود الأمن إلى الشارع وتدور عجلة الإنتاج بطاقات الثورة العملاقة والخلاقة معا، كى تضع مصر مستقبلا فى المكان اللائق بها بين الأمم، بعد أن انهار بها النظام الساقط إلى حضيض غير مسبوق.

لكن التباطؤ فى تحقيق أجندة الثورة فى الثقافة، كما فى غيرها من المجالات الأخرى، يفسره الشعب عن حق بأنه تواطؤ، خاصة فى زمن تنهال فيه القوى الخارجية علينا بمؤامراتها من كل شكل ولون. وها هو التواطؤ يؤدى إلى نتائجه الوخيمة، إلى تغيير مزاج الشارع المصرى بشكل مقلق وخطير. بدأت تجلياته منذ 28 يونيو ولا تزال تفاعلاتها تختمر فى الوجدان، وتدق عملية اختمارها تلك أجراس انذار خطيرة لمن يهمه أن يسمع، أو لمن يحرص على مستقبل مصر وعلى ثورتها. ولم يكن الغضب الذى ظهر فى الكثير من التعليقات على جوائز الدولة، ولا ذلك الذى تجلى فى كل الكلمات التى تحدث بها المحتفلون بالذكرى السنوية لرحيل محمد عفيفى مطر إلا تعبيرا عن أن الثقافة المصرية السليمة لا تزال فى الهامش، والثقافة الرسمية الفاسدة والساقطة فى المركز.

وأن ما يكشف عنه تغيير مزاج الشارع المصرى، وقلقه المشروع على ثورته وعلى مستقبل يوفر له الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، هو أمر خطير لابد من أن نعمل على تداركه بأسرع ما يمكن.

فمازلنا، وبعد أربعة شهور من الثورة، نجد أن الوضع فى البلد كله، وفى الثقافة المفروض أنها رائدة التنوير والتثوير فيه، لم يتغير قط. وأن الاستقطابات القديمة بين مؤسسة فاسدة تبدد المال العام (ما يقرب من خمسة ملايين فى جوائز أقل ما يقال عنها إنها فضيحة، وشعر بعض من شاركوا فى التصويت عليها بالعار) وضمير ثقافى يحرص على قيم الثقافة المصرية المستقلة والحرة ويقاوم الفساد. هذا الاستقطاب مازال على ما كان عليه قبل الثورة لم يتغير.

لاتزال فلول النظام الفاسد والمخلوع هى التى تعمر المؤسسة الثقافية، ولايزال كل أعضاء المجلس، المعينون منهم لأشخاصهم أو لوظائفهم، هم من اختارهم «الوزير الفنان» أو بالأحرى من أدخلهم إلى حظيرة النظام. ولا تزال الأصوات الثقافية النقية التى قاومت الفساد، وطرحت الحق فى مواجهة السلطة، وترفعت عن الخوض فى مباءاتها مهمشة، تحتفل بأعلامها فى «ورشة الزيتون» بالضاحية، وليس فى المجلس الأعلى للثقافة بمبناه الفخم فى قلب جزيرة الزمالك، «وحىّ الزمالك.. مسالك مسالك» على رأى الشيخ إمام.

هذا الاستقطاب الكريه، والذى راقبت تحولاته وتطورات تكريسه عن كثب، عبر عمل فى المشهد الثقافى المصرى يقارب نصف القرن، ليس غريبا على الثقافة المصرية فى تاريخها الحديث. فمنذ ما عرف باسم «ازمة المثقفين» فى خمسينيات القرن الماضى، عرفت الثقافة المصرية تجليات مختلفة له، بلغت درجة عالية من الابتذال والسفالة فى العقدين الأخيرين. أقول إن هذا الاستقطاب بلغ درجة عالية من الابتذال والسفالة فى العقدين الماضيين، لأن النظام الذى كان على المثقف تبريره وتسويغه فكريا وصل إيضا إلى حضيض من التبعية والهوان غير مسبوق. لأنه لو كان جائزا أن نلتمس العذر لمثقف (وأنا لست ممن يلتمسون العذر له) يتخلى عن دوره الأساسى فى أن يكون ضمير الأمة، وصوت عقلها النقدى الحر، إزاء نظام له مشروعه الوطنى، وله إنجازاته التى قد تغفر له بعض أخطائه، كما كان الحال فى الخمسينيات والستينيات، فإن من المستحيل أن نجد عذرا لمثقف يتخلى عن هذا الدور لصالح نظام والغ فى العمالة والفساد. قامت مصر عن بكرة أبيها حتى اسقطته، ثم لم نجد لدى هذه المجموعة المدجنة من المثقفين أى إحساس بالكرامة يدفعهم فور سقوط النظام الذى خدموه، وساهموا فى إطالة عمره وتكريس فساده، إلى الاستقالة.

بل وجدناهم للمفارقة المرّة يبدلون جلودهم ويزعمون أنهم مع الثورة، ويواصلون خطابهم الزائف، لا فى مديح النظام وتبرير سقطاته كما كانوا قبل شهور، ولكن فى مديح الثورة والتغنى بمناقبها. بالصورة التى استحالوا معها إلى العملة الرديئة التى تطرد العملة الجيدة من السوق، والتى تميع خطاب الثورة وتفرغه من محتواه الحقيقى.

هنا أعود إلى ما بدأت به، إلى ما يكشف عنه الاحتفال بالذكرى السنوية لرحيل شاعر كبير بقامة محمد عفيفى مطر الذى وصفته فى دراسة مطولة عنه، بمناسبة إعداد مجلة (الكلمة) التى أرأس تحريرها ملفا ضافيا عنه، قبل رحيله بعام، بأنه أكبر شعراء مصر. وهو بحق أكبر شعراء مصر فى زمنه، فقد كان شعراء مصر الكبار دوما يمثلون كرامة الثقافة والشعر ويترفعون عن الانخراط فى مباءة المؤسسة الفاسدة. هكذا كان موقف أمل دنقل من المؤسسة قبله، وهكذا كان موقف عفيفى مطر الذى دفع ثمن مواقفه تلك سجنا وتهميشا وتشريدا. فقد كان فى مصر دوما عدد كبير من المثقفين الذين حرصوا على كرامتهم كمثقفين، ورفضوا التدجين، أو دخول الحظيرة، بالرغم من علف الحظيرة الوفير فى العقدين الماضيين، وما تغدقه على سوائمها من مال، ونفوذ وأعمدة فى (الأهرام) وجوائز ومناصب وعلاج بالخارج على نفقة الدولة... وغير ذلك.

بينما تحرم من يرفض دخول حظيرتها وتبرير فسادها واستبدادها حتى من العلاج على نفقة الدولة فى الخارج. هكذا حرم عبدالحكيم قاسم وأمل دنقل وفاروق عبدالقادر وعفيفى مطر ويوسف أبورية وغيرهم من العلاج حتى الموت، ولايزال هناك من يعانون من المرض دون علاج، وفى مقدمتهم الروائى الرائع والكبير حقا محمد ناجى، بينما أرسلت الدولة من هم أقل منهم موهبة وإنجازا إلى أوروبا وأمريكا للعلاج، لأنهم من سكان حظيرتها التى يزكم روثها الأنوف.

وإذا كان النظام الفاسد المخلوع قد نجح فى تهميش المثقفين الشرفاء الذين حافظوا على استقلالهم وكرامتهم (وهم كثيرون من صنع الله إبراهيم ومحمد البساطى إلى رضوى عاشور وأمينة رشيد، ومن سيزا قاسم وسيد البحراوى إلى عادل السيوى ومحمد عبلة، ومن محمود الوردانى وسلوى بكر، إلى سعيد الكفراوى ومحمد المنسى قنديل ومحمد ناجى. ومن محمد بدوى وخيرى دومة إلى أحمد زغلول الشيطى ومنتصر القفاش وغيرهم كثيرون من كل الأجيال، بل إن القائمة لحسن الحظ أطول من قائمة المدجنين) فقد واصلوا رغم هذه الحرب الحفاظ على استقلالهم ذاك كالقابض على الجمر.

وواصلوا معه اثراء الثقافة المصرية برغم حرمانهم من جوائز الدولة وعلف حظيرتها الوفير. وما لم يتغير الوضع، ويزاح كل سكان حظيرة النظام الساقط إلى الهامش ومزبلة التاريخ، ويتسلم السلطة الثقافية فى مصر كل من أبقاهم النظام الساقط فى الهامش من المثقفين المستقلين الشرفاء، لن يدرك أحد أنه قد قامت ثورة فى مصر.
صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات