الكرم بدون حب.. سفه - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:33 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكرم بدون حب.. سفه

نشر فى : الأربعاء 8 يوليه 2015 - 10:40 ص | آخر تحديث : الأربعاء 8 يوليه 2015 - 10:40 ص

بيل جيتس والوليد بن طلال، وهبا ثروتيهما أو الجزء الأكبر منهما للمشروعات الخيرية، يا الله ما أكرمهما، وما أكرم فاندربيلت وروكفلر ومورجان وفورد وآخرين قرروا ذات يوم التخلى عن ثروات هائلة. لم يسع الناس فى كل مكان إلا أن يحمدوا لهؤلاء الأغنياء كرمهم. لم يسألوا عن السبب، أو عن مصادر هذه الثروات، ولم يتوقفوا ليستفسروا عن مصير هذه الأموال الطائلة لو أن أصحابها لم يقرروا منحها للفقراء أو لأصحاب حاجات، بالتأكيد لم تكن لتذهب معهم إلى حيث هم جميعا ذاهبون.

* * *
وقفت أمام أحد محلات البقالة العظمى المنتشرة فى أحياء مدينة السادس من أكتوبر، أراقب تصرفات صبى فى السادسة عشرة من عمره، يعرض للبيع أطباقا كرتونية تحتوى على معجونات وحلوى. رأيته يركض من موقف سيارة إلى موقف سيارة أخرى وعلى وجهه ابتسامة بسيطة لا افتعال فيها، رأيته يلح على سيدة «كريمة» يريد أن يعيد إليها مبلغا متبقيا من حسابه. تجادلا. هى تصر على ان المبلغ من حقه لأنها تريده أن يحصل عليه، وهو يصر على أن المبلغ ليس من حقه وهى تصر على رغبتها أن يصبح من حقه. تكرر المشهد ثلاث مرات خلال أقل من نصف ساعة. سألته صديقة كانت بمعيتى عن سبب إصراره رفض المنحة، قال إن أمه أوصته بألا يعود بدخل يزيد عما قدرته هى بنفسها ثمنا لبضاعتها، «لو أخذت من الناس عطايا فستتعود عليها ولن تبذل جهدا فى البيع، وإذا لم تبذل جهدا فى البيع واعتمدنا على العطايا لن ننتج ولن نبيع وينتهى بنا الأمر لاجئين متسولين.» راحت مخيلتى تستعيد صور جماهير غفيرة تجمعت ذات يوم منذ نحو أربع سنوات فى ميدانى سينتاجما بأثينا والتحرير بالقاهرة. كانت تطلب استرداد الكرامة. ومن يومها، أى منذ أربع سنوات، لم تتوقف الحرب ضد شعبى اليونان ومصر، من داخل البلدين ومن خارجهما.

****
امرأة تحت البيت الذى أسكنه فى المهندسين، تحمل طفلا أشقر يرتدى ملابس قذرة تتدلى منها علامات ثراء. كانت المرأة تتسول بيد وتقبض بيد من حديد على ذراع الطفل، وآثار أصابعها «مزرقة» على الذراع البيض. رأيتها فى اليوم التالى وقد تغير الطفل فصار أسمر بملابس تنم عن فقر أصيل وبعيون يلتهمها الذباب المتزاحم عليها. وما أن أدرت ظهرى إلا ووقع نظرى على عامل نظافة ببذلته الخضراء، التى صارت فى عرف أهل مصر «الرداء الرسمى للتسول» يركض ناحيتى ومن خلفه شاب يحمل عجوزا لا يبصر. كلهم متسولون. ما لا يعرفونه هو أننى لا «أعطى» مالا لمتسول. ففى ذاكرتى محفورة صورة هذا الرجل الذى كان يظهر كل شهر رمضان ونحن أطفال، يجوب الشوارع والأزقة المحيطة ببيتنا فى الحى القديم مرات عديدة. كان معظم وجهه مغطى بضمادات قذرة، ويد من الاثنتين تختفى داخل صدره وكأنها مبتورة، واليد الأخرى ممدودة بأصابع متكسرة وشديدة الاهتزاز. اختبأنا ذات يوم فى موعد الإفطار، وقد خلت الشوارع والأزقة من الناس. وجدناه يخلع ملابسه الرثة ويجلس فى ركن بعيد يحصى المال بيدين طليقتين وعيون سليمة. دب الشك فى نفسى فى المتسولين كلهم واستمرت إلى يومنا هذا كراهيتى للتسول، يستوى عندى المتسولون على أبواب البيوت والمساجد مع المتسولين على أبواب السفارات.

** * *
عشت سنوات فى بلاد لا تجد شعوبها فى التسول غضاضة. ففى الهند وفى «سيلان» قبل أن تغير اسمها وفى ميانمار، عندما كانت تحمل اسم بورما رأيت أنواعا شتى من التسول لا يتسع المجال هنا لسردها. رأيت رجال دين بملابسهم الصفراء يجوبون الطرقات وفى يد كل منهم «قصعة» يتسول بها، باعتبار التسول فريضة وتدريبا على التواضع وكسر النفس. ولكنى عشت سنوات أخرى فى بلاد أخرى لم أقابل متسولا واحدا. لم ألتقِ متسولا فيما لا يقل عن عشر مدن صينية زرتها ومنها العاصمة بكين، وهى المدينة التى قضيت فى أفقر أحيائها بعض أمتع ساعات عمرى. عشت أياما فى اليابان، لم يصادفنى متسول فى محطة قطارات أو على باب مطعم. قيل لى فى تفسير غيابهم إن نظام الاقطاع الصناعى والسياسى السائد بشكل من الأشكال فى اليابان تولى منذ القدم حل هذه المشكلة.

** * *
رأيت مسئولا مصريا قبل أكثر من عشر سنوات يتسول فى قصر أحد الأمراء. كنت مشاركا فى مؤتمر منعقد بأحد أجنحة القصر حين رأيته ذات صباح وأنا متوجه إلى قاعة الاجتماع جالسا فى قاعة انتظار ببهو القصر. لم يغادر مقعده على امتداد أيام إقامتى الثلاثة. سألت فقال لى أحد المعاونين بكلمات تسيل أدبا وتقطر خجلا منى «لقد توسل فأعطيناه، أراد المزيد فاعتذرنا، فعاد يتوسل مقابلة شخصية مع الأمير، فرفضنا فراح يتوسل وساطات فى إمارات أخرى، ومازال يراوح مكانه ولا يغادر». يومها وكنت فى المطار مغادرا سمعت صخبا ورحت أتقصى فجاء الرد من معاون آخر بكلمات تسيل هى الأخرى أدبا وتقطر خجلا «إنه «فلان» المسئول الكبير فى حكومتكم، زميل المسئول القابع فى صالون القصر، عائد إلى مصر بعد انتهاء زيارته الرسمية للبلاد ويتوسل من مرافقيه، ولكن بغضب تسديد فاتورة الوزن الزائد.

ما أن أتذكر هذه الوقائع وغيرها حتى أدخل مع نفسى، أو مع أصدقائى، فى نقاش طويل حول قصة المعونات الخارجية التى تحصل عليها مصر من دول غربية أو عربية. أسال أحيانا هل يدخل سعينا للحصول عليها تحت باب «التسول»، وهل سعيهم لإغراقنا بهذه المعونة يقع تحت باب «الكرم». مازلنا أنا وأصدقائى منقسمين فى النقاش، فلكل منا موقفه العنيد.

** * *
أجرت هيلارى دافيدسون وكريستان سميث من جامعة نوتردام، دراسة حول ما أطلقتا عليه مبادرة علم السخاء، درستا فيها عادات العطاء وتوصلتا إلى ان نسبة كبيرة من الذين يتبرعون بما لا يقل عن ١٠٪ من دخولهم لا يصابوا باكتئاب، وإن «الأسخياء» بالمال أو بالوقت أو بالدم أو بالضيافة صحتهم على وجه العموم أفضل من صحة غير الاسخياء. تستند الدراسة إلى فكرة شائعة منذ القدم عن علاقة الكرم بالسعادة، وأن الكرماء أسعد من غيرهم. وبالفعل توصلت الدراسة إلى أن الإنسان يرتاح نفسيا إذا أعطى الغير، وإن العطاء يكثف العلاقات الشخصية ويعمقها وينشئ شبكات علاقة أوسع ويمنح صاحبه، أى الكريم، طاقة جسمانية أكبر. الأهم أنها توصلت إلى وجود علاقة مباشرة بين العطاء واللذة، والسبب ربما يكمن فى أن إحساسا يتولد لدى العاطى بأنه «أنجز بكفاءة وكوفئ على إنجازه»، وهذا الإحساس فى حد ذاته يفجر الشعور باللذة وينشط تفاعلات وكيماويات السعادة فى المخ.

* * *
الناس فى الكرم ثلاث. الكريم والأنانى، و«اللى حاسبها صح». الكريم لا ينتظر من وراء كرمه ردودا ولا حتى المردود الدينى كالثواب مثلا. الأنانى لا يعطى ولن يعطى. أما النوع الثالث فهؤلاء يعطون بحساب وينتظرون العائد، هم أصحاب مبدأ «الدنيا أخذ وعطا». يقيمون مأدبة إفطار حافلة بعشرات الأصناف من المأكولات والمشروبات وينتظرون المردود. ينتظرون انبهار الضيوف فى أبسط الأحوال، ورد «العزومة» أو استلام هدية أو الاستجابة لطلب فى أحسن الأحوال. لا يعرف هؤلاء أن الضيف المحترم يسعده حديث مثير وجلسة ممتعة عن مأدبة لا كلام فيها ولا أحاسيس أو عواطف، مأدبة لا يعلو فيها صوت على صوت الاشتباكات الدائرة فوق سطح الصحون بين الشوك والسكاكين.

يتصور بعض الناس، أن الكرم يتصل بالمادة فقط، هؤلاء لم يدركوا بعد أن كرما بدون حب ليس كرما. شرط اكتمال الكرم أن يصاحبه ويغلفه الحب. لا يدركون حقيقة أن معظم المرضى يرتاحون إلى زائر يحمل باقة حب عن زائر يرمى بعلبة حلوى أو باقة زهر ويركض مغادرا غرفة المريض. الحب، وليس الحلوى، هو الأقدر على تخفيف آلام مريض. به تتغذى روح المريض وترتفع معنوياته وتشتد مقاومته للمرض. فيشفى. هذا الكلام ليس كله من عندى. فقد نقلوا عن جبران قوله «هناك جروح لا يشفيها إلا الحب والتعاطف». صحيح أيضا القول بأن «أكرم الكرم، هو حين تحب إنسانا لا يستطيع أن يبادلك الحب». دعونا نتوقف هنا قليلا ونتأمل فى عمق المغزى وحلاوة التعبير. أن تحب إنسانا وتستمر فى حبك له وأنت تعلم أنه قد لا يتمكن من أن يبادلك هذا الحب، كله أو بعضه. أليس هو تقريبا القول الدارج والمتوارث «ما أسعد امرأة تشقى من أجل من تحب».

****
الكرم، كما أتمناه سائدا، هو أن الإنسان حين يعطى فليكن عطاؤه من جسمه وعقله وقلبه ووقته وليس فقط من جيبه.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي