ويمكرون - أهداف سويف - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 11:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ويمكرون

نشر فى : الأربعاء 8 أغسطس 2012 - 9:25 ص | آخر تحديث : الأربعاء 8 أغسطس 2012 - 9:25 ص

أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، ومصر تدخل فى تغيرات كبيرة وقد بدلت نظامها الملكى بنظام جمهورى. الإمبراطورية البريطانية ذات السيادة فى المنطقة تعيش عقدها الأخير، قواتها متمركزة فى منطقة القناة ــ قناة السويس التى كانت طريقها إلى مستعمراتها فى آسيا ومطمعا أساسيا فى احتلالها لمصر فى ١٨٨٢. وهذه القوات تشكل هدفا دائما للفدائيين من شباب مصر.

 

بريطانيا ومصر تدخلان فى مفاوضات حول جلاء القوات البريطانية عن الأراضى المصرية (وهو الجلاء الذى سوف يتم بالفعل فى ٢٦ يوليو عام ١٩٥٤)، والولايات المتحدة الأمريكية ــ القوة الصاعدة الجديدة ــ تساند طموحات مصر الوطنية ــ أو، يعنى، تساند انحسار النفوذ البريطانى عن قلب ومركز هذا الجزء من العالم.

 

القائمون على حماية وإدارة وتوطيد الكيان الصهيونى المُنشأ حديثا على أبواب مصر الشرقية فى حالة قلق، فهم يعرفون أن مصر تواقة للدخول فى نهضة تنموية واجتماعية كبرى، ويوقنون أن هذا لا يفيد طموحاتهم والدور الذى يرتئونه لدولتهم فى المنطقة، وبالتالى فهم لا يريدون لنظام مصر الجديد أن يستتب ويأمن ويعمل. يحاولون، بجهود دبلوماسية، إثناء بريطانيا عن التفاوض على الجلاء وأمريكا عن مساندة خروج بريطانيا، ولا يفلحون. فيبادرون بالخط البديل عن، أو الموازى، للدبلوماسية: فى يوليو (١٩٥٤)، يُفَعِّل الكولونيل بنيامين جيبى، رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية، «الوحدة ١٣١»، لإطلاق «عملية سوزانا» (وكانت هذه الـ«وحدة ١٣١» خلية سرية تتكون من بعض المصريين اليهود، يعملون فى مجال تسهيل الهجرات والتنقلات غير القانونية، قام بتجنيدهم عام ١٩٤٨ ضابط المخابرات الإسرائيلى أفرام دار، الذى جاء مصر تحت اسم جون دارلنج، بريطانى من جبل طارق). فى ٢ يوليو، تفَجِّر الخلية ١٣١ مكتب بريد فى الإسكندرية، وفى ١٤ يوليو تفَجِّر مكتبات وكالة الاستعلامات الأمريكية فى الإسكندرية والقاهرة، ومسرح يملكه بريطانى. ويقول المؤرخ شبطاى تيفيث، إن العملية كانت تهدف إلى زعزعة ثقة الغرب فى النظام المصرى الجديد عن طريق افتعال أحداث تؤدى إلى الاعتقالات والاحتجازات والمظاهرات والاحتجاجات وأعمال العنف والانتقام والإحساس العام بالقلق وعدم الأمان، وكان المخطط أن تقع الشبهات على «الإخوان المسلمين، أو الشيوعيين، أو ذوى الأجندات الخاصة، أو الراغبين فى عدم استقرار البلاد».

 

لكن السلطات المصرية اكتشفت المخطط، وقبضت على أفراد الخلية وحاكمتهم. وكانت التفجيرات صغيرة ولم تصب أو تقتل أحدا، لكن فضح العملية ــ وعرف فيما بعد باسم «موضوع لافون» ــ كان له تداعيات كبيرة، فقد أثر سلبا ولمدة طويلة على علاقة إسرائيل بأمريكا وبريطانيا. وظلت إسرائيل تنكر تورطها فى العملية حتى مارس ٢٠٠٥، حين كرمت العناصر الباقية منها تكريما رسميا «لجهودهم فى خدمة الدولة».

 

وهكذا الاستراتيجية الصهيونية منذ البدء: تقوم على حماية وتقوية قلب الحركة الصهيونية، مع إقامة رقابة دائمة تلف ٣٦٠ درجة حول محيطها وتعمل على تحليل ما يدور فى كل موقف حولها ثم تحاول استعمال هذا الموقف لصالحها. من الممكن أن تكتفى بتوصيفه والترويج لهذا التوصيف بطريقة تدعم المنظور الذى تقدمه هى للعالم، أو من الممكن أن تندس فيه وتؤثر عليه بشكل يخدمها. والكثير من العمليات التى تقوم بها إسرائيل غالبا ما تهدف ــ ليس إلى الناتج المباشر وإنما إلى التداعيات والتأثيرات الناتجة ــ أى أن «عملية سوزانا» لم تهدف بالذات إلى حرق ذلك المسرح السكندرى ذى الصاحب البريطانى، ولكن إلى إحداث قلق عند الأجانب فى مصر وغضب عند دولهم.

 

أحيانا، طبعا، تحاول إسرائيل ضرب عصفورين بحجر، مثال ذلك عدوانها على الباخرة الاستطلاعية الأمريكية «ليبرتى» على بعد خمسين كيلومترا من شاطئ العريش فى ٨ يونيو أثناء حرب ١٩٦٧، والذى هدف إلى تدمير المعلومات التى سجلتها «ليبرتى» عن الممارسات الإسرائيلية فى الحرب، لكنه هدف أيضا إلى إيهام الأمريكيين أن مصر تقصف بارجتهم وتقتل بحاريها ــ وكادت الحيلة أن تنجح وتؤدى إلى «عقاب» أمريكى لمصر.

 

وتعرف مثل هذه العمليات بـ«عمليات العَلَم المزيف» ــ حيث تُنَفَّذ تحت هوية غير هوية مخططها. وقد برعت إسرائيل فى هذه العمليات. فمثلا فى عملية اغتيال ممدوح المبحوح فى دبى كان الفريق الإسرائيلى يعمل تحت غطاء جوازات سفر من بريطانيا وأيرلندا وفرنسا وألمانيا وأستراليا، وقد صرح ضابط المخابرات الإسرائيلى السابق، فكتور أوستروفسكى، بأن معظم العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية تجرى تحت علم مزيف ــ وفى الأغلب علم دولة يعتبرها المُستَهدف دولة صديقة. وفى مقال فى عدد ١٣ يناير ٢٠١٢ من مجلة «فورين بوليسى»، يحكى صحفى التحقيقات، مارك بيرى، عبر مجموعة من مراسَلات وكالة الاستخبارات الأمريكية، كيف يتقمص ضباط الاستخبارات الإسرائيلية، الموساد، شخصيات ضباط مخابرات أمريكيين ليجندوا أعضاء من حركة «جند الله» للقيام بعمليات ضد إيران.

 

يقول إن الولايات المتحدة (فى أيام جورج بوش الابن) كانت تحاول فتح أبواب الحوار مع إيران، وتستغرب رفض إيران للحوار، بينما إيران تعتقد أن أمريكا تقوم بعمليات خفية ضدها وتحاول «تنييمها» بدعوتها للحوار. وبينهما كان «الطرف الثالث» يصول ويجول: يتخفى فى الزى الأمريكى ليُجَنِّد ويعبئ جند الله للتخريب والقتل فى إيران، ثم يظهر فى شخصه الإسرائيلى، العارف بـ«الشرق الأوسط»، والخبير فى مكافحة «الإرهاب»، ليشرح للولايات المتحدة الصديقة كيف أن إيران دولة مارقة، والإيرانيين متطرفون ويكرهون أمريكا ويستحرمون حتى الحديث مع ممثليها ولا ينفع معهم سوى الحرب، الحرب والاستئصال. ومن العمليات التى قام بها جند الله فى إيران، مثلا، قتل ١٦ جندى من حرس الحدود الإيرانى فى ديسمبر ٢٠٠٨، ومقتل، على فترات متفرقة، عدد من علماء الذرة الإيرانيين.

 

وتتسم العمليات الإسرائيلية ــ وبالذات عمليات العلم المزيف ــ بنوع من الدرامية والمسرحية، وبدرجة من الحبكة والخيال، وكأن من يبتكرها ويخطط لها يراها كعمل فنى متكامل، قصة أو فيلم، فيه حركة وشخصيات وإثارة. وغالبا ما تظهر إسرائيل رسميا سريعا بعد الحدث/العملية لـ«تشرح» الحدث ومعناه، ولتضبط المنظور الذى سيتناوله منه الإعلام ويتعامل به الجمهور معه، والتطوع بالدلائل من تسجيلات أو وثائق أو جثامين التى تعزز هذا المنظور. خدمة شاملة، من تأليف وإخراج وتمويل للعرض، ثم تحليله ونقده والقيام بالتخديم الإعلامى عليه، وشرح تداعياته وردود الفعل الواجبة له.

 

ألا نغلق هذا المسرح الكئيب؟ ألا نتكاتف ونخرج الطرف الثالث من بيننا؟ قلبى على شهدائنا وعلى الشهداء فى كل مكان. إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات