وعد بلفور .. حين يكون الدين فى خدمة السياسة - محمد السماك - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 6:28 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وعد بلفور .. حين يكون الدين فى خدمة السياسة

نشر فى : الأحد 8 نوفمبر 2009 - 9:48 ص | آخر تحديث : الأحد 8 نوفمبر 2009 - 9:48 ص
فى ذكرى وعد بلفور بإقامة وطن يهودى فى فلسطين يستحسن، بدلا من البكاء على الأطلال، محاولة استخراج العِبر وتعلّم الدروس. لم تقدم بريطانيا وعدا لليهود بمنحهم فلسطين على طبق من فضة إكراما لعيونهم. ولكنها فعلت ذلك لأسباب تتعلق بمصالحها الإستراتيجية أولا فى ضوء متغيرات ميزان القوى العالمى فى ذلك الوقت.

فى عام 1916 كادت ألمانيا أن تسجل انتصارا ساحقا على الدول الأوروبية كافة. فالجيش الروسى بدأ ينسحب من المعركة مخلفا وراءه عشرات الألوف من القتلى. وكان الفرنسيون قد استسلموا نهائيا بعد أن فقدوا فى معركتى «ميوز» و«صم» أكثر من 700 ألف قتيل. أما بريطانيا فقد فقدت معظم أسطولها البحرى، وانعزلت عن العالم ولم يبق أمامها سوى أحد أمرين، إما قبول شروط ألمانيا لوقف القتال أو تغيير المعادلة بشكل جذرى عن طريق زجّ الولايات المتحدة الأمريكية فى الحرب. لم تكن شروط ألمانيا المنتصرة مقبولة فى لندن. ولم يكن زجّ الولايات المتحدة فى الحرب أمرا فى متناول اليد البريطانية. ولم يبق فى بريطانيا من المؤن ما يكفى حاجة الشعب من المواد الغذائية أكثر من أسابيع قليلة.

خلال هذه الفترة الحاسمة قدم يهودى إيرانى يدعى جيمس مالكوم عرضا باسم المنظمة الصهيونية إلى مارك سايكس أحد نواب وزير الحربية البريطانى. حمل العرض تواقيع حاييم وايزمن الصهيونى البولونى، وناحوم سوكولوف الصهيونى الروسى، وصموئيل لاندمان الصهيونى البريطانى، بالإضافة إلى توقيع جيمس مالكوم نفسه. وبموجب هذا العرض تعهدت المنظمة الصهيونية العالمية بحمل الولايات المتحدة الأمريكية على الدخول فى الحرب ضد ألمانيا، مقابل الحصول على وعد من بريطانيا بإنشاء وطن قومى يهودى فى فلسطين.

فى مايو من عام 1916 قام وزير الخارجية جيمس بلفور بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة و(كندا)، ليستطلع مدى قدرة اللوبى الصهيونى على حمل الإدارة الأمريكية على الاشتراك فى الحرب. هناك فوجئ بلفور بقدرة المفاتيح اليهودية على فتح أبواب البيت الأبيض والكونجرس أمامه. وتعرف لأول مرة على فاعلية الإعلام الذى تسيطر عليه الحركة الصهيونية ومدى تأثيره فى عملية صناعة القرار الأمريكى.

عاد بلفور من زيارته مطمئنا إلى أن المنظمة الصهيونية قادرة على الالتزام بما تعهدت به. وبناء على ذلك وافق مجلس الدفاع البريطانى على العرض. وفى 16 أبريل 1917، أعلن الرئيس الأمريكى ويلسون دخول أمريكا الحرب بحجة أن ألمانيا أغرقت سفينة شحن أمريكية فى بحر المانش تدعى «ساسكس».. ولكن بعد انتهاء الحرب تبين أن قصة الباخرة كانت مختلقة.

****

قلب اشتراك أمريكا بالحرب الوضع فى أوروبا رأسا على عقب.. فانهزمت ألمانيا بعد انتصار.. وأصدر بلفور وعده المشئوم.

والسؤال الآن هو: كيف أقنعت المنظمة الصهيونية الرئيس الأمريكى بدخول حرب لا علاقة لبلاده بأى شأن من شئونها؟.. الجواب ببساطة هو التالى: فى عام 1912 خاضت الولايات المتحدة الأمريكية انتخابات رئاسة الجمهورية. وكان وودرو ولسون مرشح الحزب الجمهورى ضعيفا جدا، لدرجة انه كان فاقدا كل أمل بالنجاح، وكان الحزب الديمقراطى مسيطرا على الوضع سيطرة تامة. هنا تدخلت المنظمة الصهيونية، وتعهدت لولسون بتأمين فوزه إذا ما تعهد هو بدوره بتأييد مطالبها، وتمت الصفقة. وبموجبها استطاع الصناعى الصهيونى برنارد باروك أن يشق الحزب الديمقراطى إلى حزبين، شعار أحدهما الوعل أو الثور، وشعار الثانى الحمار.. وبذلك فقد الديمقراطيون بانقسامهم سيطرتهم على الموقف، وفاز ولسون بتفوق.

وفى عام 1948، جدد التاريخ نفسه. إذ بعد سبع دقائق فقط من إعلان اليهود إقامة دولة فى فلسطين سارع ترومان إلى الاعتراف بها، وقبض ثمن ذلك أصوات اليهود ونفوذهم فى الانتخابات التى جرت فى العام نفسه.

أما على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسى، فى بريطانيا، فقد كان بلفور من المؤمنين بأن التاريخ ليس سوى أداة لتنفيذ الهدف الإلهى. وأن الإنسان مكلف بالعمل على تنفيذ هذا الهدف وأن أول ما يتطلبه منه ذلك، الإيمان بالهدف الإلهى، ثم بأن على الإنسان المؤمن أن يعمل على تحقيقه أيا كانت الصعوبات.

****

آمن بلفور كما أوضح فى كتابه العقيدة والإنسانية «Theism and Humanity» أن الله أغدق على اليهود وعدا بالعودة إلى أرض الميعاد، وأن هذه العودة هى شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح. وأن هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن.

اكتسب بلفور هذه الثقافة من عائلته، وخصوصا من والدته التى تركت فى شخصيته الدينية بصمات واضحة من إيمانها بالعقيدة البروتستنتية المرتبطة أساسا بالعهد القديم وما فيه من نبوءات توراتية.

ولذلك فإن بلفور عندما صاغ الوعد بمنح اليهود وطنا فى فلسطين، كان يعتقد أنه بذلك يحقق إرادة الله، وأنه يوفر الشروط المسبقة للعودة الثانية للمسيح.. وبالتالى، فإنه من خلال مساعدة اليهود على العودة فإنه يؤدى وظيفة العامل على تحقيق هدف إلهى مقدس.

مع ذلك، ما كان لبلفور أن يجعل من الوعد أساسا مركزيا فى السياسة البريطانية لو لم يشاركه فى ذلك شخص آخر هو لويد جورج رئيس الحكومة فى ذلك الوقت.

فقد ذكر لويد جورج فى كتابين له هما «حقيقة معاهدات السلام» و«ذكريات الحرب» أن حاييم وايزمان الكيمائى الذى قدم خدماته العلمية لبريطانيا فى الحرب العالمية الأولى هو الذى فتح له عينيه على الصهيونية، حتى أصبح أكثر صهيونية من وايزمان نفسه.

وهكذا عندما تشكلت الحكومة البريطانية من لويد جورج رئيسا ومن آرثر بلفور وزيرا للخارجية، بدا وكأن كل شىء بات مؤهلا لتمرير بيان الوعد.

****

فى عام 1952 نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرّية عن فترة 1939 ــ 1919، بما فيها تلك التى تتعلق بتوطين اليهود فى فلسطين. ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، فى الصفحة السابعة نقلا عن مذكرة وضعها آرثر بلفور، ما يأتى:

«ليس فى نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأمريكية تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور فى التقاليد القديمة العهد والحاجات الحالية وآمال المستقبل، وهى ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربى الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة».

أما بالنسبة للاستيطان اليهودى فى فلسطين فقد أوصى فى الجزء الأخير من هذه المذكرة بما يلى:

«إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية فى العالم فينبغى أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود.. ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التى تخصّها بشكل طبيعى سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالا (أى باتجاه لبنان) أم عن طريق عقد معاهدة مع سورية الواقعة تحت الانتداب (الفرنسى) والتى لا تعتبر المياه المتدفقة من «الهامون» جنوبا ذات قيمة بالنسبة لها. وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضى الواقعة شرقى نهر الأردن».

****

لم يكن العامل الدينى السبب الوحيد وراء إصدار الوعد. كانت هناك مصالح ذات بعد استراتيجى. وقد توافق العمل على خدمة هذه المصالح ورعايتها مع الإيمان الدينى بالصهيونية المسيحية مما أدى إلى الالتزام بالوعد وبتنفيذه.

ففى الأساس كانت بريطانيا قلقة من جراء هجرة يهود روسيا وأوروبا الشرقية الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد. وفى عام 1902 تشكلت «اللجنة الملكية لهجرة الغرباء». استدعى هرتزل إلى لندن للإدلاء بشهادته أمام اللجنة. فقدم مطالعة قال فيها:

«لا شىء يحلّ المشكلة التى دعيت اللجنة لبحثها وتقديم الرأى بشأنها سوى تحويل تيار الهجرة الذى سيستمر بقوة متزايدة من أوروبا الشرقية. إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم، فأين يذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هنا ــ أى فى بريطانيا ــ غير مرغوب فيه، فلابد من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه دون أن تثير هجرتهم المشكلات التى تواجههم هنا. لن تبرز هذه المشكلات إذا وجد وطن لهم يتم الاعتراف به قانونيا وطنا يهوديا».

اقترح تشرمبرلين ــ وكان رئيسا للحكومة ــ منطقة العريش لتكون وطنا لليهود. ولكن لجنة الخبراء الصهيونيين رفضت الاقتراح لأن العريش تفتقر إلى المياه، ثم لأن توطين اليهود فيها يثير مشكلات لبريطانيا مع مصر. ثم اقترحت الحكومة البريطانية برئاسة اللورد آرثر بلفور هذه المرة، تقديم يوغندا لتكون الوطن الموعود. ولكن المؤتمر الصهيونى السادس لم يقبل الاقتراح لافتقار يوغندا إلى عنصر الجاذبية اللازم لاستقطاب اليهود لحثّهم على الهجرة إليها.

فى ذلك الوقت كان همّ الحكومة البريطانية وقف تدفق اليهود إليها من أوروبا الشرقية. ولذلك فقد قدمت مشروع قانون إلى مجلس العموم لوقف الهجرة فى عام 1904 ثم اضطرت إلى سحبه تحت ضغط المعارضة. وأعادت تقديمه ثانية فى عام 1905 وأصبح قانونا فى العام التالى.

هنا كان لابدّ بعد تشريع وقف الهجرة من تأمين ملجأ بديل، فكان البديل هو فلسطين.

كان بإمكان بريطانيا التدخل لمنع تهجير اليهود من أوروبا الشرقية، إلا أنها وجدت أن لها مصلحة فى توظيف هذه العملية فى برنامج توسعها فى الشرق الأوسط، فحوّلت قوافل المهاجرين إلى فلسطين بعد أن منحتهم الوعد بالوطن وبعد أن وفرت لهم الحماية والمساعدة اللازمتين.

وهكذا صدر الوعد فى الثانى من نوفمبر 1917 ليعطى من لا يملك إلى من لا يستحق.
محمد السماك كاتب وصحفي لبناني
التعليقات