أنت معنا.. أم ضدنا؟.. يختصر هذا السؤال المزاج العام المسيطر على المصريين فى سنوات ما بعد 2011، ففى ظل حالة الاستقطاب الشديدة التى اشتعلت شظياتها الأولى فى أعقاب الثورة، تآكلت مساحات الموضوعية وهوامش حرية التعبير حتى أوشكت نيران الإقصاء أن تحرقنا جميعا، فلقد أصبحنا لا نرى من ليس معنا إلا ضدنا أو علينا. وصارت هذه الثنائية الإقصائية تزاحمنا فى كل مشهد، فما من قضية ولا موقف إلا وتجد الانقسام الذى أنبتته الولاءات المسبقة للهوية الفكرية والسياسية قد شطر المجتمع من أعلاه إلى أسفله بصورة حدية بالغة الانقسام لا تبنى وطنا ولا تصنع مجدا، وإنما تخلق كل معطيات الفرقة والنزاع والتناحر.
وفى هذه السطور، أناقش حلقة من هذا المسلسل، والتى إن بدت بعيدة عن موضوعاته التقليدية المعتادة، فإنها لا تزال تدور فى فلك المشهد العام المسيطر على الأحداث فى مصر. فخلال الأيام الماضية، اشتعلت فتيلة جديدة للجدل على صفحات الإنترنت ومنتديات التواصل الاجتماعى وانقسم المصريون إلى معسكرين أحدهما يدعو لمقاطعة المنتجات التركية كرد فعل على سياسات تركيا المعادية لمصر والداعمة للإرهاب ــ هكذا يقول أصحاب هذا الرأى، بينما ينادى المعسكر الآخر بدعم المنتجات التركية إما قناعة بمواقف معينة لتركيا، أو بدعوات مساندتها ــ من باب الولاء والبراء ــ فى أزمتها الراهنة مع روسيا ــ هكذا يقول أصحاب هذا التوجه. وفى الحقيقة، فإننى أستطيع أن أجد أسبابا ــ لا سيما التصعيد الاعلامى والشحن المعنوي ــ كثيرة قد تكون وراء تبنى كل من الطرفين لوجهة نظره. ولكن ما يثير حيرتى ويدعونى حقا للتساؤل: من أنبأك هؤلاء المقاطعون أو أولئك المساندون أن مواقفهم من المنتجات التركية ــ أيا ما كانت ــ سيكون لها جدوى أو تأثير على الاقتصاد التركي؟ وطبعا، أقصد هنا الأثر الاقتصادى والذى حتى يرقى لهذا المسمى لابد وأن يكون معنويا ومستدام الأثر.
***
إن الموضوعية فى تناول وتحليل الأمور تحتم علينا أن نمتلك شجاعة الاعتراف بأن ما حققته تركيا منذ عام 2002 يعد انجازا اقتصاديا بكل المقاييس. فخلال الفترة 2002ــ2014، بلغ متوسط معدل نمو الاقتصاد التركى نحو 8.5% وأصبحت تركيا دولة من دون ديون، وارتفع نصيب المواطن التركى من الدخل القومى وفقا لمقياس تعادل القوة الشرائية من نحو 3500 دولار إلى نحو 15 ألف دولار، وارتفع حجم الصادرات من 36 مليار دولار إلى نحو 157 مليار دولار. وأصبحت تركيا واحدة من أكبر عشر اقتصادات على مستوى العالم، ودخلت مجموعة العشرين التى تضم كبار اللاعبين فى الاقتصاد العالمى. وقد كفلت هذه الإنجازات مجموعة من الخصائص المميزة للاقتصاد التركى من بينها أنه أصبح يتمتع بدرجة عالية من التنوع السلعى والتعدد السوقي؛ بمعنى أن الصادرات التركية لا تعتمد على منتج معين بدرجة كبيرة، كدول الخليج مثلا التى تعمد على النفط ومشتقاته، ولا تتركز صادراتها فى عدد محدود من الأسواق الاستيرادية، كتركز الصادرات المصرية مثلا فى عدد قليل من الأسواق الأوروبية والعربية، وإنما تتنوع صادراتها سلعيا وتتوزع جغرافيا على نطاق واسع من الأسواق مما يعطيها مناعة عالية ضد التقلبات السعرية والتغيرات السياسية والاقتصادية فى الأسواق المستوردة، وهذا ما ثبتت صحته خلال الأزمة المالية العالمية التى عصفت بالعالم خلال السنوات الماضية.
أما فيما يتعلق بلب الموضوع، فإن المتأمل فى حركة التجارة البينية المصرية ــ التركية خلال العقدين الماضيين يجد أن حجم ومعدل نمو التبادل التجارى بينهما قد اتسم بالتواضع والبطء الشديدين مقارنة بتجارة كل منهما مع دول العالم الأخرى. فعلى سبيل المثال، بلغ متوسط قيمة الصادرات المصرية لتركيا نحو 590 مليون دولار أمريكى خلال الفترة 1994ــ2014، ولم يتخط حجم صادراتنا لتركيا حاجز المليار دولار إلا فى أعقاب ثورة يناير 2011، حيث ارتفع من 926 مليون دولار عام 2010 إلى 1.4 مليار دولار عام 2011. ولا حاجة للتدليل على هامشية هذا الرقم خصوصا لو علمنا أن مساهمة مصر فى جملة الواردات التركية من العالم، والتى بلغت نحو 242 مليار دولار فى عام 2014، لم تتعد 0.6%. بمعنى آخر، فإن تركيا تعتمد على دول غير مصر فى تغطية 99.4% من احتياجات أسواقها المحلية. وعلى الجانب الآخر، وهو ما قد يكون أكثر أهمية بالنسبة لمعسكرى المساندة والمقاطعة، فإن متوسط قيمة واردات مصر من تركيا خلال الفترة 1994ــ2014 قد بلغ نحو 1.3 مليار دولار. وخلال عام 2014، بلغت الواردات المصرية من تركيا أعلى مستوياتها بقيمة 3.3 مليار دولار، ومع ذلك فهذه القيمة لا تمثل سوى 2% من إجمالى صادرات تركيا لدول العالم خلال الفترة 1995ــ2014. إذن؛ فأنت تقاطع أو تدعم 2% من اجمالى الصادرات التركية. فأى شىءتقاطع؟ وأى شىءتدعم؟ إن المنطق يقتضى منك قبل أن تمارس ضغطا أن تمتلك أدوات الضغط والتأثير، ويقتضى منك أيضا قبل أن تقدم دعما أن تخلق وسائل المساندة والمآزرة.
***
أخيرا، إن لإدارة السياسة الخارجية أصولا وقواعد، وللتجارة الدولية نظريات وقوانين، ولم أسمع يوما أن إدارة سياسة الدول وتجارتها الخارجية يمكن أن تخضع لنظرية «أولاد سليم اللبانين» التى ينص قانونها الأول على مبدأ «هاتعورنى أعورك»، وإنما ترسم الدول مسارات سياساتها وتجارتها الخارجية بناء على تحليلات دقيقة ودراسات متأنية لجدوى وتداعيات وانعكاسات هذه السياسات على المدى القصير والطويل. وحتى كتابة هذه السطور، فإننى لم أسمع ــ وأظننى متابعا جيداــ عن دراسة جادة أو تقييم علمى تم فى مؤسسة متخصصة بمصر خرج بتوصيات محددة فيما يتعلق بمسار ومستقبل العلاقات المصرية التركية ومقاطعة أو دعم منتجاتها. إذن، فمن أين أتى المقاطعون أو الداعمون بالمعلومات التى بنوا عليها مواقفهم؟
إننى أدعو المنفصلين عن الواقع من محاربى طواحين الهواء، المدافعين عن قضايا لا أساس ولا وجود لها، أن يوجهوا حماسهم ونضالهم لما هو أصلح لأنفسهم وأنفع لوطنهم. وكفانا اختلافات واستقطابات لا تحكمها قناعات عقلية وأسانيد منطقية بقدر ما يحكمها الولاء المسبق والتعصب للهوية الفكرية والسياسية، وهو منطق أثبتت التجارب أن الكل فيه خاسر.