كتب الدكتور «أحمد عبدربه» مقالا مهما بجريدة الشروق حول السياسة الخارجية المصرية منذ 2014 وإخفاقاتها الخمسة وسبقه بمقال آخر حول النجاحات الخمس..وقد استوقفتنى إشارته إلى طريقة اختيار السفراء ووضعها ضمن الإخفاقات أو أحد مسبباته.. وإشارته إلى اعتماد عنصر الولاء «للسلطة» عند الاختيار.. والحقيقة أن الأمر لم يقتصر على اعتماد عنصر الولاء عند الاختيار.. بل إن المخاوف والشكوك فى عدم الولاء أدت إلى إبعاد مجموعة كبيرة من خيرة العناصر الدبلوماسية ونقلهم إلى وزارات أخرى أذكر منهم السفير «معتز أحمدين خليل» الذى عمل معى فى قطاع الأمم المتحدة وتولى بعد ذلك رئاسة الوفد الدائم لدى الأمم المتحدة فى نيويورك والذى استشهد أخوه الدبلوماسى أيضا فى حادث تفجير سفارتنا فى باكستان.
وقد تزاحم فى رأسى الكثير من الأفكار والذكريات بعد قراءة هذا المقال، فعندما التحقت بوزارة الخارجية فى أوائل عام 1961 وتسلمت العمل بإدارة الهيئات الدولية، كانت الإدارة تعج بفطاحل الدبلوماسية المصرية فى ذلك الوقت.. اسماعيل فهمى ومحمد رياض وأشرف غربال وعبدالحميد عبدالغنى.
كان «عبدالحميد عبدالغنى» أقربهم إلى شباب أو صغار الدبلوماسيين.. كان عندما يدخل غرفتنا نهب واقفين فيهرول سريعا ناحية أحد المقاعد وهو محرج قائلا «إيه اللى بتعملوه ده»، ثم يجلس بيننا يحادثنا كزميل.
وفى أحد الأيام.. دخل الساعى ليبلغنا «أنهم وضعوا لافته نحاسية على مبنى الوزارة مكتوب عليها «وزارة الخارجية».. ( كانت اليافطة قد أزيلت ومكثت فترة طويلة فى الورشة للإصلاح ثم أعيد تركيبها) فقال «عبدالحميد بك عبدالغني».. ده يبقى تزوير.. مين اللى قال أن دى وزارة الخارجية.. فنظرنا إليه مدهوشين ومنتظرين الإيضاح.. فقال.. قضية فلسطين تتولاها وزارة الحربية (الدفاع) والشئون الإفريقية «محمد فايق» بالرئاسة والشئون العربية «حسن صبرى الخولى» بالرئاسة، والسودان المخابرات العامة.
وبالرغم من هذا التصوير المفعم بروح الدعابة والسخرية، إلا أنه حقيقى بلا مبالغة، فقد ظلت وزارة الخارجية فى جميع العهود مهمشة ولا يتم اللجوء إليها إلا إذا تعقدت الأمور، اللهم باستثناءات قليلة عندما ينجح وزير الخارجية فى كسب ثقة الرئيس ويكون هذا الوزير على درجة عالية جدا من الكفاءة مما يمكنه من توسيع المساحة التى يستطيع أن يتحرك فيها.. ومن القلائل الذين تمكنوا من إعادة السياسة الخارجية إلى وزارة الخارجية.. اسماعيل فهمى ثم بعد حين من الدهر.. عمرو موسى.
***
ولعل أخطر قرار مصيرى تم اتخاذه دون استشارة وزارة الخارجية هو قرار سحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء ومن تيران وصنافير وإعادة إغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية.. وهو القرار الذى اتخذته إسرائيل تكأة ومبررا لعدوانها عام 1967.. ولم تعلم به الخارجية إلا عندما رفض قائد القوات الدولية أخذ تعليمات إلا من سكرتير عام الأمم المتحدة..
هذا القرار المصيرى الذى عارضته وزارة الخارجية عندما علمت به (هناك مذكرة شهيرة فى هذا الصدد لاسماعيل فهمى الذى كان فى ذلك الوقت مشرفا على غرفة العمليات بالوزارة)، استخدمته إسرائيل على أوسع نطاق لتهيئة الرأى العام العالمى لعدوانها عام 1967.. فعندما قال شارل ديجول إن فرنسا ستقف ضد الدولة التى تطلق الرصاصة الأولى، ردت إسرائيل بأن الرصاصة الأولى قد أطلقت بالفعل.. لأن اغلاق المضايق والحصار البحرى هو عمل من أعمال العدوان بنص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد كنت فى نيويورك فى عام النكسة أو النكبة وأذكر جيدا «أبا إيبان» وزير خارجية إسرائيل فى ذلك الوقت الذى كان يصف سحب القوات الدولية بالمظلة التى تطوى عند سقوط المطر.. إن تحليلا منصفا لقرار سحب القوات بعد مضى خمسين عاما.. سيجد أنه لم يخدم أى هدف سوى تمهيد الأرض للعدوان الإسرائيلى فى يونية 1967 وهو الذى يعد التاريخ الحقيقى لميلاد إسرائيل والتاريخ الحقيقى لنهاية الحقبة الناصرية والتاريخ الحقيقى لبداية تدهورنا فى جميع المجالات.
***
على إثر انقلاب البشير فى السودان اتصل بى الأمير سعود الفيصل حيث كنت سفيرا لمصر فى الرياض فى ذلك الوقت وسألنى عن موقف مصر من الانقلاب حتى تسترشد به السعودية فى تحديد موقفها فأرسلت للقاهرة أستفسر فجاءنى الرد «بأنهم مجموعة وطنية وليس لهم أى انتماءات أخرى»، وعند إبلاغ الأمير سعود بذلك قال فى دهشة «هل أنتم متأكدون من هذه المعلومات»؟ وما هى إلا أيام أو أسابيع قلائل حتى اتضح للعامة أن التيار الدينى المتشدد متمثلا فى تحالف الترابى والبشير هو الذى قام بالانقلاب.
وعندما عدت للقاهرة فى إجازة وناقشت الأمر مع الدكتور بطرس غالى وزير الدولة للشئون الخارجية فى ذلك الوقت قال لى: «أنا هعمل إيه.. أنا قلت لهم.. لكن تقييم الأجهزة كان مختلفا لأنهم ظنوا أنه ما دام البشير قد أخذ «فرقة عسكرية» فى مصر فقد أصبح مواليا لنا.. وكانت تقارير سفيرنا فى الخرطوم ــ وهو مسئول امنى كبير ــ تؤكد ذلك».
***
هذان مثالان للإخفاقات التى حدثت ليست بسبب وزارة الخارجية بل بسبب استبعاد وزارة الخارجية.. وأبادر إلى القول إننى لا أطالب بأن تكون السياسة الخارجية حكرا على وزارة الخارجية بل بالعكس فإن إشراك الجهات الأخرى ذات الصلة مثل الدفاع والمخابرات تحت إشراف مؤسسة الرئاسة ضرورى من أجل التوصل إلى سياسة ناجعة.. المهم هو عدم إقصاء جهة ما والمهم هو التنسيق الجيد.
إن منصب وزير الخارجية فى الولايات المتحدة مثلا هو المنصب الثانى فى الدولة من الناحية الفعلية.. ولعلنا نذكر أن «هيلارى كلينتون» عندما تفاوضت مع «باراك أوباما» بعد هزيمتها أمامه وعرض عليها منصب نائب الرئيس.. نصحها زوجها «بيل كلينتون» بألا تقبل المنصب وتصر على وزارة الخارجية.. صحيح أن البيت الأبيض هو الذى يدير السياسة الخارجية ولكن فى إطار نظام محكم للتشاور والتنسيق مع الخارجية والدفاع والمخابرات والكونجرس.
إن لدينا وزارة خارجية تتمتع بموارد بشرية ومهارات مهنية وتقاليد تاريخية عريقة تجعلها تضارع أرقى وأقوى الأجهزة الدبلوماسية فى العالم.. إذا أحسنا الاستفادة منها فسنتجنب كثيرا من الإخفاقات.
ولا يعنى ذلك التقليل من الإنجازات التى تحققت فهى جديرة بالتسجيل خاصة المصالحة الفلسطينية وجنوب السودان والموقف المتزن والمتوازن تجاه القضية السورية.. إلا أن هناك إخفاقة كبرى فى الطريق ما لم نتداركها بسرعة وهى كارثة الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لقد أطلقت أمريكا هذا «البالون» منذ عدة أيام لاختبار رد الفعل العربى.. ولو استيقنت أن بركانا سينفجر فى وجهها لتراجعت على الفور.. أما هذا الخذلان وترك الأمر لأضعف الحلقات وهى السلطة الفلسطينية وانعدام ردود الأفعال الأخرى واقتصارها على بيان متحدث رسمى من هنا وهناك واجتماعات تقليدية... كل ذلك أدى إلى توصل أمريكا إلى قناعة بأن القدس وفلسطين لم يعودا على رأس اهتمامات العرب فعقولهم مشغولة أو مرعوبة من «الخطر الإيرانى» وأزرعته فى المنطقة، مما أتاح لترامب ذى «الإخفاقات» الكثيرة أن يجد مخرجا مريحا يتيح له تنفيذ أحد وعوده الانتخابية ويتقرب به إلى قاعدته اليمينية المتطرفة وإلى اللوبى الصهيونى لعله يسانده ويوفر له شيئا من الحماية تجاه المشاكل التى تعصف به من كل جانب.