غريب أمر هذا العمود الذى يأبى أن يُكتب إلا حول ما يشغل بالى فعلا وقت تسليم النص. وقد حاولت عددا من المرات أن أستبق موعد التسليم ــ وهو ظهر الثلاثاء ــ فأكتب النص يوم السبت أو الأحد أو الاثنين، فأجده حين أقرأه، صباح الثلاثاء، بايت وماسخ، وأضطر إلى الإسراع بكتابة نص جديد. وكثيرا، وليس هذا بمستغرب، يكون «ما يشغل بالى» متناثرا متجزئا كما هى حياتى ــ وحيوات الكثيرين ــ الآن، فيبدو من المستحيل أن أنتقى موضوعا واحدا أكتب فيه ــ هذا بالرغم من قناعتى الأكيدة بأهمية وأحقية بعض الموضوعات وتفاهة أخرى، إلا أن التافه ــ لظروف آنية ــ أحيانا يغلب على الهام ويطغى على مساحات من التفكير والإحساس أكبر كثيرا مما يستحقها. ومن أمثلة هذا فى حياتى الشخصية الآن مشكلة الحاوية.
والحاوية هى الحاوية التى تحوى أشيائى التى عشت بها ومعها ذلك الشق من حياتى الذى قضيته فى لندن فى العقود الثلاثة الماضية. رأينا ــ أنا وأولادى ــ أن الأوان قد آن لضم الحياة وتبسيطها وتوحيدها فى مصر، فصفينا أمورنا فى الخارج، وسلمنا التاريخ المادى لذلك الجزء من حياتنا إلى شركة دولية للشحن، وعملنا بنصيحة العارفين بأن نسلم العملية كلها إلى شركة واحدة تحمل مسئولية الأشياء منذ أن تتسلمها منا فى بيت لندن إلى أن تسلمها لنا فى بيت القاهرة. ومر الجزء البريطانى بسلام، وأبحرت الباخرة، وعليها حاويتى. بها كتب كثيرة، وملابس أعزها ولم ألبسها منذ عشرين عاما، وصور ولوحات قيمتها الوحيدة فى تاريخها الشخصى معى ــ والحقيقة أننى حين قمت (مضطرة) بعملية جرد ذهنى للأشياء، وجدتها، إن وضعت فى محل للأنتيكات أو الروبابيكيا ربما لم تجد من يشتريها، ولكن لكل منها تاريخ عندى جعلنى أعهد بها إلى الحاوية.
وصلت الحاوية إلى بر مصر، وبدأت المشاكل، وأسارع بالقول إنها ليست بالمرة مع الجمارك المصرية، هى مع الجزء من الشركة الذى عليه أن يتعامل مع الجمارك و«يخَلِّص» معها. والغريب أنى حتى لا أفهم ما هى المشكلة بالضبط، ورق أوقعه وأوثقه ثم يطلب منى أن أوقع وأوثق غيره شبيه به مثلا، أو به معلومات لا أفهمها، قيم مالية كبيرة تذكر لى على إنى سأضطر لأن أدفعها ــ مع التنويه بإمكانية تفاديها، مع وجود الحضور الدائم للتهديد بأنها ممكن أن تكبر وتزيد. ثم تنسى هذه القيم ويذكر غيرها ــ وأنا لا أفهم على أى أساس بنى أى منها أصلا، استحالة معرفة متى نبدأ الدخول فى حيز دفع الأرضيات والغرامات وكيف يمكن تفادى ذلك، التحذير المستمر من الاقتراب بشخصى من الجمارك ومحاولة فك الطلاسم المحيرة أو تخطى العقبات التى أستشعرها فى الطريق المظلم الذى أسير فيه.
غريب، غريب. ربما أستطيع أن أكتب عنه بوضوح أكثر فى مرة قادمة، حين أفهمه، إذا تسنى لى أن أفهمه، أما الآن فأعيش الخبرة التى تتسم بالكابوسية والتفاهة معا، تخرجنى منها إلى النور أعمال وكتابات الأصدقاء الرائعين المبدعين الذين يذكروننى دائما بما هو مهم فعلا فى الحياة، أذكر منهم (على سبيل المثال لا الحصر، كما يقولون) فى الأيام القليلة الماضية، كتابات بلال فضل ووائل جمال، والقصيدة الرائعة طلع علينا بها الشاعر المبدع أمين حداد، وبالطبع برنامج «البرنامج» الذى صار يقوم بدور رائع فى إعادة ضبط توازناتنا.
برنامج باسم يوسف الحيوى المتدفق هو مثال لما جادت علينا به الثورة، تلك الشحنة من الإبداع والأمل والثقة التى دفعت بالدكتور باسم، وهو الطبيب الجراح، من أسرة طبية، أن يسجل بعض البرامج فى بيته ويطلقها على يوتيوب، هذه الثقة، وهذا الإيمان بالنفس وبالقدرات، هى ملامح مما دفع بالناس ليخرجوا، ليس فقط ليطالبوا بالتغيير، بل ليكُونُوا التغيير. «البرنامج» يمثل لى الفعل الملتحم تماما بالواقع وبالعمل من أجل تغيير وتشكيل الواقع (الفعل الذى كان يطلق عليه فعلا «ملتزما»)، وهو فى نفس الوقت فعل مبدع وناقد ومهنى ومتقن، يسحب جمهوره معه، يضىء لهم مناطق ملتبسة، يشبكهم فى لحظة جمعية غنية، يضحكهم ــ أيضا من أنفسهم. المطالبة بالتغيير هامة ومن حق الجميع، لكن باسم يوسف وأمين حداد وإسكندريللا لم يكتفوا بالوقوف أمام النقابات للمطالبة أو للدفاع، بل كتبوا، وغنوا وأبدعوا. أخذوا بفعلهم هذا الحق المطالب به. باسم يوسف اشتغل وتعب وجمع حوله فريقا جبارا، سجل برامج وأتى بالتمويل والتعاقدات ونفذ بالفعل عملا خرج به على الناس فكان سخرية وحبا وتعليقا وأصبح الكل ينتظره، الكثرة ليضحكوا معه، والبعض ليشتمه، والبعض ليرفع القضايا عليه ــ فصار مركزا للحراك والتفاعل الفكرى والمجتمعى الذى نعيشه الآن.
كتب بلال فضل عن نيرودا، وناظم حكمت، والغناء فى الظروف الصعبة، الغناء كثبات وكمقاومة وكاستمرار. لنغنى إذا، ونكتب، ونبدع برامج، ونضحك فى وجه القمع والظلم والكذب والجهل ــ وفى حالتى أنا هذه الأيام: فى وجه التفاهة، وشركات التخليص، والفساد، الجديد منه والقديم