مضى أكثر من عشرة أيام خرجت بعدها الحكومة لتنفى إشاعة قرب إفلاسها وعجزها عن سداد رواتب العاملين بها والمعاشات. وكانت هذه المدة كفيلة بأن تكبر كرة الثلج..
ففى 12 ديسمبر سألتنى صديقة إذا ما كانت ودائع البريد آمنة كودائع البنوك؟ كان سبب فزعها أن صديقا «أهلا بالثقة» حذرهم من أن الحكومة على وشك الإفلاس وأنها قد تستولى على ودائع الأفراد لتسدد التزاماتها. بعدها بأيام، كان للمئات من الأسر المصرية متوسطة الحال أصدقاء «أهل بالثقة» ينشرون أخبارا مفزعة مع تحريض على سحب الودائع، ما لبثت أن تطورت إلى نصيحة بتحويل المدخرات إلى دولارات.
وجاء الإعلان عن استقالة محافظ البنك المركزى ومقابلة الرئيس لخليفته مساء 24 ديسمبر ثم نفيها ليقوى الشائعات الإفلاس. تلاها قرار ستاندرد آند بورز بتخفيض التصنيف الائتمانى لمصر ليصب الزيت على النار.. كل ذلك والحكومة غائبة.. وكان أول تصريح بنفى الشائعة فى 26 ديسمبر بعد أن أصدر وزير المالية ست بيانات صحفية عن موضوعات أخرى.
يعلم المتخصصون يقينا أن الاقتصاد عليل نتيجة استمرار سياسات مبارك ولكن علله ليس من بينها الإفلاس. ولكن، ليست تلك أول مرة تنتشر فيها إشاعة عن إفلاس وشيك للبلاد وانهيار مخيف للاقتصاد. فمنذ بداية الفترة الانتقالية، لجأ المجلس العسكرى لهذا التهديد كلما اشتدت موجة من المطالبات الاجتماعية أو فى أعقاب أحداث قمع وقتل للمتظاهرين السلميين. أحيانا فى شكل إشاعة مجهولة المصدر أو تصريح لمسئول. حدث هذا على يد أحد أعضاء المجلس فى مايو 2011، وبعد قتل متظاهرين سلميين فى محمد محمود ومجلس الوزراء. وهكذا، ظهرت الإشاعة الحالية بالتوازى مع نية الحكومة تنفيذ إجراءات من شأنها رفع الأسعار والضرائب. المشكلة بالنسبة للرئاسة كانت فى التوقيت. فقد كانت تعصف بالبلاد أزمة سياسية مستفحلة نتيجة الإعلان الدستورى الذى يزيد صلاحيات الرئيس ويحصن قراراته. بالإضافة لتحصينه مجلس الشورى والجمعية التأسيسية ضد حل مرتقب من قبل القضاء. وانفض أعوانه من حوله، ناهيك عن مناصريه الذين منحوه الأغلبية فى الانتخابات الرئاسية.
وظلت حكومة هشام قنديل بمنأى عن التدخل العلنى فى الأزمة جاعلة الرئيس وحزبه وجماعته فى صدارة المشهد، حتى عندما سالت الدماء أمام قصر الاتحادية، انسحبت قوات الشرطة وعاد ظهور القناصة.
قرارات سرية
وإذا كانت ستاندرد آند بورز قد وضعت مصر بمنزلة مشابهة لليونان، فهو ليس لتدهور قدرتها على سداد ديونها بل بسبب «الاستقطاب السياسى». وأصر الرئيس فى هذا الجو الملتهب على بدء الاستفتاء فى 15 ديسمبر. وفى غمار الأزمة، تورط الرئيس فى تمرير اجراءات اقتصاية حسبها ستبقى سرية. وافق مرسى فى السر على طلب الحكومة بزيادة الإنفاق الحكومى بـ50 مليار جنيه من جيوب الشعب دون الرجوع للشعب ولا نوابه ولا الإعلام (نشر فقط فى الجريدة الرسمية). ويؤدى هذا القرار لزيادة عجز الموازنة والديون دون خلق وظائف ولا استثمارات جديدة. وفى هذه الأجواء المضطربة عشية أول جولة للاستفتاء، اتخذت الحكومة إجراء آخر من شأنه إحراج مؤسسة الرئاسة. فقد كشفت الحكومة عن إجراءات سترفع الأسعار وتحمل الطبقة الوسطى ضرائب جديدة. وافق عليها الرئيس أيضا فى الخفاء وصدرت كقانون فى الجريدة الرسمية (بموجب صلاحياته التشريعية المؤقتة). ولكن بالنسبة للإخوان ــ وعن حق ــ يمكنها أن تعصف بالتوازن الهش «لنعم» فى الاستفتاء والذى يستند إلى قاعدة الطبقة الوسطى والفقراء من أتباعهم. لذا ما كان من الرئاسة إلا أن أعلنت فى الثانية صباحا عن تجميد تلك القوانين. أدت كل تلك العوامل: من كشف إجراءات غير شعبية قبيل الاستفتاء والتأخر فى نفى إشاعة الإفلاس ناهيك عن توقيت إطلاق الشائعة، إلى مولد شقاق بين الحكومة والرئاسة.
هشام قنديل إخوان أم نظام قديم؟
لطالما تحدث محللون عن أن هشام قنديل تابع للإخوان. وهو ما نفاه هو شخصيا والإخوان، دون أن ينجحوا فى إقناع الرأى العام. ولكن وقت تعيينه رئيسا للوزراء صرح أحد أقطاب الحرية والعدالة لأهرام أونلاين بأن تزكية جهاز المخابرات لهشام قنديل هى ما دفعته للمنصب. وهو الأمر القريب للمنطق، بما أن الرجل كان فى منصب «حساس» لعدة أعوام فى مكتب وزير الرى، وهى وزارة تتولى ملفاتها المخابرات.
وكما يكرر الإخوان عن حق، جاءت حكومة قنديل معبرة عن توازن القوى وقتها بين العسكر وبين الإخوان: أى مائلا بشدة لصالح بنية النظام القديم. فعلى عكس تعهدات فيرمونت، جاءت تفاهماتهم مع العسكر مستبعدة أى حقائب وزارية للقوى السياسية ما بعد الثورة. ولم يتول الإخوان سوى خمس حقائب، فى حين تولى الوزارات المهمة قدامى موظفى دولة مبارك، كاتمو أسرارها وذوو الولاء للحزب الوطنى وشبكات الحكم القديمة (وهم من يسمون زورا بالتكنوقراط). وهكذا، فى غداة إعلان نتيجة الاستفتاء الرسمية بـ«نعم» بأغلبية 63.8%، أعلن مرسى عن رغبته فى تعديل وزارى محدود «لمواجهة المشكلات الصغيرة والكبيرة للاقتصاد».
وفى اليوم التالى، صرح مسئول حكومى للمصرى اليوم بأن التعديل سيشمل 8 وزارات اقتصادية ــ اختارهم العسكر ويرغب الحرية والعدالة فى استبدالهم بأعضائه. وطالب الحزب شبه الحاكم بالداخلية والمالية والبترول والتموين والكهرباء والاتصالات وغيرها.
حرب التصريحات
وفى 29 ديسمبر ألقى مرسى خطابا أمام مجلس الشورى لطمأنة المصريين على صحة الاقتصاد (فبالغ حتى فقد مصداقيته)، كما أشار إلى أنه يتفاوض مع قنديل بشأن التغيير الوزارى. وبالتوازى، ألمح أعضاء فى الحرية والعدالة إلى أنهم يريدون سعد الكتاتنى رئيسا للحكومة.
ولم يغب رد قنديل حيث ألقى فى اليوم التالى بيانا شدد فيه على أن حكومته هى حكومة «تكنوقراط» وسينضم إليها وزراء جدد «تكنوقراط «، فى تحد لرغبة الرئيس وحزبه وفى إشارة واضحة إلى أنه لن يسند حقائب للحرية والعدالة. ولأول مرة بدا قنديل فى مواجهة مرسى. فماذا نقرأ فى هذا الخلاف؟ أولا: أعطى التعديل الوزارى «جزرة» للإخوان ولكنه لم يغير موازين القوى لصالح الثورة. بل عكس استمرار التصور الإخوانى لمكانتهم أمام شركائهم فى الحكم. يرى الإخوان اللعبة السياسية منحصرة بينهم من جهة وبين علية موظفى الأجهزة السيادية وشبكة المصالح الاقتصادية من جهة أخرى. وبالتالى يرون ميزان القوى فى صالح رجال دولة مبارك، الأعلم ببواطن إدارة شئون الدولة ومن يملك زمام الانفلات الأمنى والجيش. أى أنهم لا يضعون الثورة ولا الثوار ولا الشعب العريض إلى جانبهم فى المعادلة ــ المعركة. لذا قد يكسبون هم تارة أو يخسرون جراء التفاوض، ولكن تخسر الثورة وحدتها ومطالبها. بينما استفاد النظام القديم من هذه الرؤية القاصرة بأن دعم مكانته وأعاد ترتيب صفوفه، بعد أن كان «فلولا» ضعيفة مرتعشة تلبى رغبات الميدان. كما كان أولئك الماكثون خلف الستار هم المستفيدين من أحداث الاتحادية.
ثانيا: أنه بعد الاتفاق بين الإخوان وممثلى النظام القديم أن شراكتهم فى الحكم تعنى أن «لا ضرر ولا ضرار»، حاول الإخوان استغلال نتيجة الاستفتاء لأخذ مساحة أكبر من الحكم، بعد أن بدا واضحا أن أولئك الذين يحكمون من خلف ستار كمن يضر بالإخوان (إشاعة الانقلاب ضد مرسى، توريط الرئيس فى مقتل متظاهرين، وشائعة الإفلاس). وهكذا، ظلت حقيبة الداخلية فى يد تلاميذ العادلى، والبترول فى يد تلاميذ سامح فهمى بينما حصل الإخوان على «جزرة» التهدئة حقائب اقتصادية، ووزارة التنمية المحلية المسئولة عن إعداد الكشوف الانتخابية وعن المحليات.
ثالثا: هذا هو الخلاف العلنى الأول بين ممثلى دولة مبارك الناجين وبين الحكام الجدد للبلاد. وفى انتظار لمن الغلبة، شدد هشام قنديل على أن حكومته اختارت لا أن تلبى المطالبات الاجتماعية بل «أن تأخذ القرارات الصعبة» أى أنه سيستأنف إجراءاته المعادية للشعب. كما أنها ماضية فى الإفراط فى القروض من الصندوق وغيره. وهو ما يعنى أنه أيا ما كانت الخلافات الحالية بين الإخوان وحلفائهم، فإنهم متفقون على أمر واحد: أن الاقتصاد سيظل حبيسا لنفس مبادئ رأسمالية المحاسيب المتوحشة من خفض عجز الموازنة بسياسات انكماشية تضر الفقراء وتحفيز نفس شبكة المستثمرين وليس مبنيا على العدالة الاجتماعية وخلق الوظائف، واللذين يستلزمان سياسات مختلفة.