منذ وفاة عملية السلام التى بدأت فى أوسلو، يروج عدد متزايد من القادة الفلسطينيين ومعهم الفئة الأقل تطرفا فى إسرائيل وكثير من المراقبين فى الخارج لسيناريو جنوب إفريقى. يلوح هؤلاء إلى تكرار ما حدث للأغلبية السوداء فى جنوب إفريقيا التى عانت من تمييز عنصرى لعقود وناضلت من أجل حصولها على حقوقها المدنية والسياسية بوسائل سلمية فى المرحلة الأولى، ثم بالسلاح، حتى جاء اليوم الذى أدركت فيه الأقلية البيضاء ألا مستقبل أمامها فى العالم المتحضر، الذى وصل إلى مقاطعتها بشكل شبه كامل،
إلا إذا اعترفت بالواقع الديموغرافى للبلاد وقبلت المساومة مع أعدائها وضحاياها السابقين بقيادة نلسون مانديلا. فتنازلت عن الحكم مقابل بقائها وعيشها بأمان وإنقاذ مصالحها الاقتصادية.
هذا هو السيناريو الذى يهدد به الفلسطينيون عندما يشيرون إلى أن تطور الأوضاع على الأرض والسلب اليومى للأراضى وبناء المستوطنات قد يفرض عليهم تغيير إستراتيجيتهم والسعى إلى حل بديل ويرغم إسرائيل على منحهم حقوقهم المدنية كاملة فى إطار دولة ثنائية القومية، أو أن تقوم النخبة اليهودية بتطبيق نظام التمييز العنصرى بشكله الفاضح والصريح.
يعلم الفلسطينيون والعالم أجمع أن هذا هو الكابوس الذى يراه الإسرائيليون بمثابة فشل المشروع الصهيونى وبالعيش كأقلية فى فلسطين كما يعيشون فى دول العالم الأخرى. هذا فى أفضل الأحوال، أى إذا تحقق حل الدولة الواحدة نتيجة اتفاق سلمى ومن دون حرب مدمرة. ولكن فى النفسية اليهودية، ستكون النتيجة زوالهم كشعب فى جميع الأحوال.
مهما كان هذا السيناريو يرعب إسرائيل فإنه مضللٌ للجميع لأن تاريخ الصراع اتبع منهجا مختلفا عبر العقود. والواقع اليوم، بما فيه المستوطنات، يشير إلى سيناريو أشبه بوضع الجزائر وحرب استقلالها عن فرنسا فى خمسينيات القرن المنصرم منه إلى نهاية نظام الأبارتهايد فى جنوب افريقيا.
ربما تعود المقارنة بالنموذج الجنوب افريقى إلى العلاقات المميزة التى قامت بين المقاومة الفلسطينية وقيادات حركة المقاومة الجنوب افريقية وكذلك إلى وجود جالية واسعة من اليهود من أصول جنوب افريقية فى اسرائيل. هؤلاء متمعنون فى تجربة النظام العنصرى حيث إن منهم أقلية هاجرت من جنوب إفريقيا للهروب من النظام هناك وهى من أعلى الأصوات التى تنبه إلى هذا الخطر على الدولة اليهودية، فهى تراقب بفزع الحكومات الاسرائيلية المتتالية مقتنعة بأن التاريخ يعيد نفسه.
من الضرورى النظر فى تجارب أخرى من حروب الاستقلال، وفى ذهننا هنا التجربة التى انتهت باستقلال الجزائر فى عام 1962، أى خمس سنوات قبل حرب يونيو واحتلال إسرائيل للأراضى العربية فى عام 1967 عندما كانت جميع الدول المستعمرة قد أنهت احتلالها لمستعمراتها الكبرى وأصبحت فرنسا منعزلة بسبب تعنتها بالتمسك بالجزائر.
كانت فرنسا آنذاك بنخبتها السياسية ورأيها العام ومثقفيها تعتبر الجزائر جزءا منها. فى الواقع، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية ثم مع بداية المقاومة المنظمة فى الجزائر، أصبح عدد من القادة السياسيين الفرنسيين يدركون ضرورة التوصل إلى حل يرضى المطالب الأساسية للسكان العرب كما كانوا يعرفونهم وينزع فتيل الحرب ويوفر على الأطراف مواجهة قد تضر بمصالح فرنسا كدولة عظمى كسبت الاعتراف الدولى بمكانتها رغم أنها انهزمت واحتُلت من قبل ألمانيا النازية ولم تحارب عمليا إلى جانب القوى المنتصرة.
كان هؤلاء يشكلون أقلية ولا أحد منهم يطرح فكرة استقلال الجزائر، إلا أنهم بدأوا بالتفكير وطرح صيغ مختلفة لإصلاح نظام الحكم فى المستعمرة الجزائرية واقتراح حلول وسط لعل الثوار يقبلون بها وتهدأ الأوضاع. إلا أن الجزائر كان يقيم فيها نحو مليون مستوطن من أصل فرنسى أو أوروبى يعيشون أسيادا بين تسعة ملايين عربى، وهم يملكون أغلبية الأراضى الخصبة بعد أن انتزعوها بالقوة ويسيطرون على القطاع الاقتصادى بشكل شبه كامل. وقد عارض هؤلاء المستوطنون جميع المحاولات للوصول إلى حلول توافقية وعرقلوا كل الخطط الإصلاحية التى كانت تقرّها الحكومة فى باريس وتبعث مسئولين من العاصمة لتطبيقها على الأرض. فنجحوا بإفشالها ونجحوا بالتالى فى تسميم الأجواء بشكل منهجى.
ما من شك أن موقف المستوطنين هذا أثر فى إقناع قادة حركة التحرير الجزائرية بأن لا خيار أمامهم إلا المقاومة المسلحة. هكذا بدأت حرب التحرير فى عام 1954 بعد أسابيع من هزيمة فرنسا الكبرى فى الهند الصينية فى معركة ديان بان فو ثم هزيمتها فى حرب السويس. أمام الأزمات الصعبة والقضايا المستعصية تقف عادة الأغلبية تائهة وغير قادرة عن التعبير عن موقف واضح وتنتظر من قادتها السياسيين أن يحسموا. بينما تتحرك أقلية مصممة لتضغط من أجل فرض رؤيتها.
فى حالات كهذه، يتطلب الموقف رؤية وإرادة صلبة فى اتخاذ قرارات جريئة ثم عزيمة من أجل تحدى ومواجهة الأغلبية التائهة. لقد كانت الجمهورية الرابعة الفرنسية حينذاك تتسم بعدم استقرار دائم بسبب أغلبيات هشة فى المجلس التشريعى وتغيير حكومات واحدة تلو الأخرى. ففى ظل نظام كهذا استطاع المستوطنون أن يبنوا تحالفات سياسية أدت بهم إلى التحكم باللعبة السياسية بأكملها تماما كما تفعل الأحزاب المتطرفة والعنصرية التى تمثل المستوطنين وأخرى متعاطفة معهم فى إسرائيل.
هذه هى المرحلة التى تقف إسرائيل عندها اليوم. فقد رأينا تناقضا مستمرا منذ عدة سنوات بين نتائج استطلاعات الرأى العام التى تشير إلى تأييد أغلبية المواطنين الإسرائيليين لفكرة حل الدولتين، بما فيه التخلى عن السيادة الكاملة على مدينة القدس من ناحية، وبين تركيبة التحالفات السياسية فى الكنيست الإسرائيلى من ناحية أخرى، والتى تؤدى إلى تشكيل حكومات أكثر تطرفا واحدة عن الأخرى. هذه الظاهرة لا تقلل من الطبيعة العنصرية فى بنية النظام الصهيونى ولكن ما من شك أن النظام السياسى الإسرائيلى أصبح رهينة المستوطنين اليوم.
إن ما يحصل يذكرنا تماما بما حدث فى الجزائر عندما اشتدت المواجهات، حيث أدرك المستوطنون أن الجيش قد يلعب دورا رئيسيا فى المعركة فأقاموا تحالفات داخل الجيش ليضمنوا وقوفه إلى جانبهم فى خوض حرب وحشية ضد العرب وحرب موازية ضد كل سياسى يحاول التوصل إلى حل سلمى من خلال مساومة سياسية تتضمن تنازلات.
هكذا امتدت الحرب لعدة سنين إضافية بسبب تعنت المستوطنين. ومثلما قتل المستوطنون اليهود رئيس الحكومة إسحاق رابين نظمت مجموعة سريّة من الضباط فى الجيش الفرنسى محاولة اغتيال الرئيس ديجول وكادوا أن يقتلوه فى عام 1961 فى الوقت الذى كان يتفاوض مع جبهة التحرير على صيغة لاستقلال الجزائر.
أدت العمليات التخريبية التى نظمها المستوطنون فى الجزائر إلى حرب مدمرة وإلى إدانات دولية لفرنسا عزلتها دبلوماسيا. وقد أدى ذلك إلى تأخير نهاية الحرب إلى مدة لا تقل عن أربع سنوات أدت إلى استشهاد مئات الآلاف من الجزائريين وزرع كراهية متبادلة لم يتخلص منها أى من الشعبين حتى الآن.
إن هو ما تحاول السلطة الفلسطينية منعه من خلال التفاوض، وهذا ما لا تراه القوى الدولية عندما تتساءل عن أسباب التعنت الإسرائيلى وتتساهل معه. فلعل المقارنة بالتجربة الجزائرية تنبه الأطراف الخارجية إلى الخطر الأكبر وهو خطر حرب مدمرة لا نهاية لها تؤدى إلى مأساة إنسانية ليس فقط من خلال ترحيل المستوطنين اليهود من الضفة الغربية والقدس، فهذا مطلوب، ولكن أيضا من خلال ترحيل مليون عربى من بيوتهم داخل الخط الأخضر.