عبارة قالها الرئيس الأمريكى باراك أوباما للرئيسى الروسى (حينئذ ورئيس الوزراء حاليا) ديمترى ميدفيدف يوم 22 مارس الماضى. والنص الكامل للجملة كانت كالآتى: «جميع المسائل، وبصفة خاصة مسألة الدفاع الصاروخى، يمكن حلها، ولكن من المهم أن تعطينى فسحة من الوقت.. الانتخابات القادمة هى آخر انتخابات أخوضها، وبعد انتخابى سيكون لدى قدر أكبر من المرونة». كان من المفترض أن يبقى هذا الكلام سرَّا بين الزعيمين، غير أنه لسبب أو آخر ظل الميكرفون من أمامها مفتوحا، فالتقطت أجهزة الإعلام هذه العبارات ــ التى تشى بالكثير ــ وأذاعتها فورا على الملأ! لا يعلم أحد على وجه اليقين ما إذا كان الأمر مدبرا، أم كان غير مقصود. غير أن الرسالة فى الحالتين قد وصلت للجميع. يعطى أوباما العالم إنذارا مبكرا بأنه سيتحرر من الضغوط الانتخابية إذا أعيد انتخابه فى نوفمبر المقبل، بكل ما يترتب على ذلك من آثار ونتائج.
●●●
الرسالة لابد وأن يكون قد قرأها الزعيم الروسى على أنها رسالة طمأنة من جانب أوباما، إنما قد ترى أطراف أخرى فى الرسالة نذير شؤم. تقول التقارير الصادرة من إسرائيل أن كبار القادة هناك يعتقدون أن إسرائيل قد تضطر إلى تخفيض عدد الرءوس النووية التى تمتلكها، إذا ما فاز أوباما فى انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة. أما سبب هذا القلق فهو أن أوباما قد أعلن عن نيته فى السعى إلى تخفيض الترسانة النووية العالمية إلى أن يصبح العالم بأسره خاليا من السلاح النووى. بل يعتقد البعض فى إسرائيل أن أوباما سيكرس جُل وقته بعد انتخابه من أجل الدفع فى هذا الاتجاه. وهنا يجب الإشارة إلى أن أوباما وقع اتفاقا مع الرئيس الروسى فى 20 أبريل 2010 بإجراء تخفيض ضخم فى الترسانة النووية لدى البلدين بحيث يصل عدد الرءوس النووية بعد التخفيض إلى 550 رأسا نوويا لكل منهما. وأمام أوباما الآن عدة خيارات لإجراء مزيد من الخفض فى هذه الترسانة بحيث لا تتعدى ما بين 300 و400 رأس نووى لكل منهما.
غير أن الولايات المتحدة وكذلك الحال بالنسبة لروسيا ليسا على استعداد لإجراء هذا التخفيض الثنائى دون التزام باقى الأطراف النووية بإجراء تخفيضات مقابلة بما فى ذلك إسرائيل التى تمتلك بالفعل ما لا يقل عن 200 رأس نووى. إذن فستواجه إسرائيل موقفا جديدا بعد نوفمبر، حيث لن يسمح لها بأن تغرد خارج السرب. أضف إلى ذلك أن إسرائيل لديها سبب آخر للقلق من الموقف، حيث قبلت الولايات المتحدة وبناء على جهود عربية حثيثة، وبقيادة مصرية، أن تتضمن الوثيقة الختامية الصادرة عن مؤتمر مراجعة معاهدة انتشار الأسلحة النووية الذى انعقد فى نيويورك فى مايو عام 2010 النص على تكليف سكرتير عام الأمم المتحدة بالدعوة إلى مؤتمر فى نهاية عام 2010 تشارك فيه دول الشرق الأوسط، وذلك من أجل التوصل إلى إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية أمر آخر يثير قلق إسرائيل فى الصميم.
●●●
كان ذلك جانبا من المخاوف الإسرائيلية التى يحملها لها المستقبل. غير أن هناك العديد من المخاوف والتحديات الأخرى، ومن خلال هذا المنظور ليس من الصعب تفسير قرار نتنياهو المفاجئ، بضم حزب كاديما إلى الائتلاف الإسرائيلى الحاكم. ضمن رئيس وزراء إسرائيل بذلك أغلبية كاسحة لحكومته فى الكنيست بلغت الآن 94 عضوا من إجمالى عدد الأعضاء الذين يبلغون 120 عضوا. وأطال هذا الائتلاف من عمر الحكومة حتى أكتوبر 2013. بعد أن جرد الائتلاف الأحزاب الأخرى التى كانت تهدد فى أى وقت تشاء بالانسحاب من الائتلاف ومن ثم إسقاط الحكومة.
●●●
نعود إلى التحديات التى ستواجه إسرائيل فى الفترة القادمة. هناك تحديات داخلية لا مجال للخوض بها الآن، أما الخارجية فكثيرة ومتعددة. أهم هذه التحديات يتمثل فى الإمكانات النووية لإيران. إسرائيل لا تمل من الحديث عن القدرات الإيرانية وسعيها لإنتاج سلاح نووى. وها هى تهددها وتتوعدها فى كل يوم. وحتى يكون لتهديداتها قدرا من المصداقية عليها أن تعطى الانطباع بأنها قد هيأت المسرح الداخلى، وشكلت حكومة تتمتع بتأيين واسع من الكنيست. ومع ذلك يصعب تصديق إمكانية قيام إسرائيل بتوجيه ضربة إلى إيران دون موافقة صريحة من قبل الولايات المتحدة. ومثل هذه الموافقة مشكوك فيها. فمفاوضات الدول الخمس الكبرى وألمانيا مع إيران حول برنامجها النووى لم تصل بعد إلى طريق مسدود، والأمر الثانى، وربما الأهم لمعارضة أمريكا لعمل عسكرى إسرائيلى، حقيقة أن أوباما نجح خلال فترة رئاسته الأولى فى سحب القوات الأمريكية من العراق، كما ينوى سحب القوات الأمريكية المقاتلة من أفغانستان عام 2014. إذن فالرجل يسعى إلى فض الاشتباكات وليس إشعال الحروب. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة تعلم يقينا أن إيران لن تقف مكتوفة الأيدى أمام ضربة إسرائيلية، وتعرف تماما أن المصالح الأمريكية فى الخليج سواء من ناحية المنشآت البترولية، أو وجود القواعد العسكرية، أو ضمان الملاحة فى مضيق هرمز، كلها أهداف تبقى رهينة لأى عمل عسكرى إيرانى مضاد، هذا بالنسبة للولايات المتحدة، أما إسرائيل فتعلم تماما قدرات حزب الله على إمطار مدنها بالصواريخ إذا ما تطورت الأمور بينها وبين إيران.
●●●
أما التهديدات الأخرى التى أسرفت إسرائيل فى تضخيمها فهى تتعلق بالجبهة المصرية فى سيناء. أكثرت إسرائيل من الحديث عما تعتبره فقدانا للسيطرة المصرية على الأوضاع فى سيناء، وانتشار السلاح فيها، وتهريب هذا السلاح إلى داخل إسرائيل، وكذلك شن هجمات لتنظيمات جهادية انطلاقا من شبه القارة. تقيم إسرائيل بالفعل جدارا عازلا بينها وبين مصر بطول الحدود معها. غير أن الأمر لا ينحصر فقط فى ادعاءات إسرائيل الأمنية بل يتعداه إلى التخوف من المواقف التى يمكن أن تتخذها الحكومة المصرية القادمة، والرئيس الجديد، ومجلس الشعب من إسرائيل. نشرت صحيفة جيروزاليم بوست 28 مايو الماضى أن استطلاعا للرأى أجرته الـBBC أخيرا أظهر أن 85% من المصريين المستطلعين يحملون نظرة سلبية تجاه إسرائيل، وتضيف الجريدة أنه فى ضوء كل الاعتبارات القائمة فى مصر حاليا فمن الصعب النظر بتفاؤل إلى مصير العلاقات الإسرائيلية المصرية. تبقى عملية السلام فى الشرق الأوسط التى ظلت فى شبه شلل تام طوال فترة رئاسة أوباما الأولى. بدأ أوباما هذه الفترة بكل حماس وإصرار. قام بتعيين مبعوث خاص له لدفع عملية السلام فى المنطقة وألقى خطابا فى جامعة القاهرة ألهب حماس الشعوب العربية والإسلامية. غير أن نتنياهو استطاع أن يبدد كل آمال الرئيس الأمريكى ويحبط أعماله. تحداه فى قضية الاستيطان، ورفض ما أعلنه خاصة بالانسحاب إلى خطوط 4 يونيو 1967، واستقوى فى مواجهته بالكونجرس الأمريكى. مثل هذه المواقف من جانب نتنياهو لن ينساها أو يغفل عنها أوباما، خاصة بعد أن يتحرر من الضغوط الانتخابية.
واعتقد أن إسرائيل تتوقع أن يسلك أوباما معها مسلكا مغايرا. ومن غير المستعبد أن يمارس أوباما الضغوط عليها خلال السنوات الأربع القادمة. ويبدو أن إسرائيل قد لجأت بالفعل إلى خطوات استباقية تحاول عن طريقها التصدى لما قد تتعرض له من ضغوط أمريكية، والتأكيد على حرصها على دفع عملية السلام قدما. أعلن نتنياهو بالفعل أن الائتلاف الجديد سيسعى إلى دفع عملية السلام، أما موفاز رئيس كاديما الذى تولى منصب نائب رئيس الوزراء فى الائتلاف الحكومى الجديد، فقد أعلن بدوره أن الائتلاف يمكنه أن يطلق عملية السلام من جديد، وانضمت الولايات المتحدة إلى الجوقة المشجعة للائتلاف فأعلنت أنه يوفر بالفعل فرصة جديدة لاستئناف المفاوضات. وأرسل نتنياهو إلى الرئيس الفلسطينى محمود عباس خطابا تعهد فيه رسميا، ولأول مرة، وكتابة، بقبول إنشاء دولة فلسطينية (لم ينس نتنياهو أن يضيف إليها صفة منزوعة السلاح). إذن فإسرائيل تعطى الانطباع بأنها تتحرك، وكأنها تقول لأوباما أنه لا يحتاج فى واقع الأمر إلى ممارسة الضغوط عليها فى فترة رئاسته الثانية، حيث تقوم بما عليها القيام به، أما إذا أراد ممارسة الضغوط عليها بإنه سيقابل بحائط صد قوى ومتماسك وفره لها الائتلاف الوزارى الجديد.
●●●
وبصرف النظر عن مثل هذه المناورات الإسرائيلية، فإن على الجميع أن يتوقع موقفا جديدا لأوباما بعد نوفمبر. وكما تخشى إسرائيل مثل هذا الموقف لأوباما سواء تعلق الأمر بسلاحها النووى أو بعملية السلام، فإن على الدول العربية، على الجانب المقابل، أن تشجع أوباما، بكل الطرق، على اتخاذ هذه الخطوات، وأن يعود ليتمسك بقناعاته الأصلية التى عبر عنها فى بداية فترة رئاسته الأولى، والتى أكسبته تقدير وتعاطف العالمين العربى والإسلامى.