أواجه فى عملى المهنى مشتغلا بالعلوم السياسية صعوبة كبيرة فى تفسير بعض ما يجرى فى مصر من أحداث، وسلوك من يقومون على إدارة الشأن العام فيها، ومع ذلك لا أظن أنه قد مر بالباحثين فى العلوم السياسية نموذج يحتارون فى تفسيره قدر حيرتهم فى تفسير ما خرج عن اللجنة المنوط بها إعداد قانون لانتخابات مجلس النواب القادم. وأظن أن ذلك هو وجه التميز الوحيد لهذا القانون. فهو لا يعكس أى رؤية سياسية، ولا يحقق دفعة لأى تطور سياسى فى مصر، ولا يحقق مصلحة أى حاكم، وفوق هذا كله يصعب تنفيذه على أرض الواقع.
طبعا أى قانون بهذه الأهمية لابد وأن يعكس رؤية سياسية محددة. فما الذى يبغى القانون تحقيقه. هل يهدف لتحقيق اللا استقرار الحكومى؟ هل يبتغى تشجيع الحياة الحزبية؟ هل سيدعم دور السلطة التشريعية فى مواجهة السلطة التنفيذية؟ تبحث عن أى من هذه الأهداف وتقارنها بنصوص القانون فلا تجد بينها صلة. طبعا ستكتشف أن القانون يسعى لترجمة بعض النصوص الدستورية إلى شروط للانتخاب بتوفير ضمانات بتمثيل كل الفئات التى نص دستور 2014 على ضرورة تمثيلها فى مجلس النواب تمثيلا مناسبا، ولكنه يفعل ذلك بطريقة تجعل من المستحيل الوفاء بهذه الشروط. وربما يكون غياب الرؤية السياسية هو بسبب تشكيل اللجنة التى وضعت القانون. فقد غلب فيها رجال القانون. ولا أنتقد رجال القانون، ولكن الذين يتصدون لمهمة مثل هذه، وهى مهمة سياسية فى المحل الأول، يجب أن يتمتعوا بالحس السياسى، ويدركوا معالم الواقع الذى يشرعون له. وهناك بكل تأكيد من رجال القانون من تتوافر فيهم هذه الخصائص. ومع ذلك أرى أن مهمة جليلة مثل وضع قانون السلطة التشريعية فى البلاد وفى مرحلة تحول نتمنى أن يؤدى إلى قدر من الديمقراطية لا يجب أن تودع بكاملها فى يد رجال القانون، وإنما لابد أن يكون من بين من يتولونها بعض رجال السياسة وعلماؤها وشخصيات عامة ذات خبرة بمثل هذه الأمور.
•••
ثم يتساءل القارئ لمواد هذا القانون هل سيؤدى إلى دفع التطور السياسى فى البلاد التى تعانى من هزالة الحياة الحزبية فيها فيشجعها، والتى تدفع ثمنا باهظا لسيادة الروح الفردية داخل نخبتها فيدفعها على طريق العمل الجماعى، ولكنها لا تجد فيه ما يوحى بذلك. وعلى العكس، ليس فقط لأنه يجعل الأغلبية الساحقة من أعضائه المنتخبين (80%) يأتون عن طريق النظام الفردى، وهو الذى أثبتت التجربة أنه هدية لأصحاب الأموال والعصبيات والتنظيمات السياسية واسعة الانتشار، ولكنه يسمح أيضا لمجموعات من الأفراد بمنافسة الأحزاب بتشكيل قوائم داخل هذه الأقلية من المقاعد التى خصصت لنظام القوائم، بل ابتدع هذا القانون أمرا لا تعرفه سوى النظم السلطوية، فبينما تتيح القوائم النسبية تمثيلا للأحزاب يقترب من حصتها من أصوات المواطنين، أخذ القانون بنظام القائمة مع الأغلبية المطلقة. أى أن القائمة التى تحصل على 51% من الأصوات فى دائرتها تبتلع كل مقاعد الدائرة. ولو افترضنا أن هناك حزبا كبيرا يستطيع أن يحصل على هذه النسبة فى أى من الدوائر الأربع المخصصة لنظام القوائم، فسوف يؤدى ذلك لاستبعاد كل الأحزاب الأخرى. ولك أن تتصور ما هو الحزب الذى يمكن أن يقترب من تحقيق هذه النسبة. هل هو حزب النور السلفى، أم حزب الإخوان المسلمين إذا ما سمح لهم بالعمل، أم من يسمون بالفلول؟ ليس الأمر بهذه السهولة كما سترى. ولكن حتى لو ظهر مثل هذا الحزب، فحصوله على هذه النسبة سيحرم 49% من الناخبين ممن صوتوا لصالح الأحزاب الأخرى أن يكون لهم تمثيل فى مجلس النواب. وينتهى الأمر بحزب واحد أو حزبين وتتحرك الأحزاب الأخرى سريعا على طريق الذبول.
•••
ولكن اسمحوا لى أعزائى القراء، من المشكوك فيه أن يتمتع أى حزب بالحرية فى تشكيل قوائمه لأن أى قائمة ملزمة بأن تترك ثلثى مواقعها للأقباط والعمال والفلاحين والشباب والأشخاص ذوى الإعاقة والمصريين المقيمين بالخارج، ولاحظ أن عدد القوائم هو أربع، منها قائمتان يترشح على كل منهما خمسة عشر، وقائمتان يترشح على كل منهما خمسة وأربعون، على أن يكون من بين هؤلا سبع من النساء فى القائمتين الصغيرتين وإحدى وعشرون فى القائمتين الكبيرتين، وإذا كنت تلوم تخصيص نسبة خمسين بالمائة للعمال والفلاحين اعتقادا منك أن المقصود بها تحجيم وجود الشخصيات العامة فى مقاعد السلطة التشريعية فهذا هو بالضبط ما يؤدى إليه هذا القانون، فيقصر الشخصيات العامة غالبا على ثلث كل قائمة، وهى الشخصيات التى تجد صعوبة فى المنافسة على المقاعد الفردية مع أصحاب المال والعصبيات، وتجد ملاذها فى القوائم الحزبية. سوف تشكل هذه الشروط تحديا كبيرا لأحزابنا الناشئة، ولو أوفى بها واحد أو اثنان منها لما أوفى بها معظمها. وكيف يمكن لها أن تدير حملاتها الانتخابية فى دوائر القوائم الواسعة وبهذا العدد الكبير من المرشحين؟.
•••
وقد تتصور أن واضعى هذا القانون كانوا يريدون خدمة الحاكم، رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزراء. ليس هذا هو ما سيترتب على هذا القانون. فمع استحالة ظهور أغلبية حزبية متماسكة يستند إليها رئيس الوزراء الذى لابد أن يحصل على الثقة من المجلس حتى يستمر فى منصبه، ويعتمد عليها فى إقرار سياساته، سيجد أمامه جمعا غير متجانس. صحيح هو يمثل فئات عديدة من الشعب، وإن كانت سطوة الثروة والعصبية هى الغالبة بينهم، إلا أن هذا الجمع لا يلتقى عدد كاف منه على رؤية واحدة أو توجه مشترك يمكن أن يكون سندا لصانع السياسات، وإنما ستتحدد مواقف معظمهم بحسب ما يحقق مصالحهم الضيقة، وما يعزز شعبيتهم فى دوائرهم الانتخابية القصيرة.
هذا القانون هو نموذج آخر لنمط صنع السياسات فى الغرف المغلقة، بعيدا عن فهم الواقع، وباستهجان أى مشاركة ممن يعنيهم الأمر سواء من الساسة أو المواطنين.