«سأستقيل من البرلمان حال الموافقة على المخصصات الحالية للتعليم والموازنة»، كان الرجل من أوائل من أبدوا موقفهم الرافض للمخصصات الحكومية لقطاع التعليم. ثم ما لبث أن تبعه كثير من النواب من لجنتى التعليم والصحة فى التعبير عن رفضهم.إذا اندهشت من موقف النائب المستقل إبراهيم عبدالعزيز حجازى، أستاذ المحاسبة بالجامعة الأمريكية، ونجل رئيس الوزراء السابق أيام حرب أكتوبر، فإليك ما هو أقوى: قبل ذلك التصريح بأسبوعين، عبر وزير التعليم نفسه عن
رفضه لموازنة التعليم، قائلا: «وصلتنا أمس الموازنة التى تحاول وزارة المالية الضغط على الوزارة بها، وبلغت مخصصات التعليم بها 80 مليار جنيه فقط، بنقص مليار عن العام المالى الجارى، وكنا طلبنا تخصيص 100 مليار جنيه، رغم أن الاستحقاق الدستورى يبلغ 130 مليار جنيه».
هذا ما كشف عنه الوزير فى اجتماعه بأعضاء مجلس النواب فى لجنة التعليم.
أبدى وكيل لجنة الصحة نفس الموقف الرافض لموازنة الصحة، وكذلك وكيل لجنة الخطة والموازنة باعتبارها غير متوافقة مع الدستور. إجمالا، رصدت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حتى الآن أكثر من عشرين نائبا رافضا للموازنة باعتبارها غير دستورية، من مختلف الأحزاب والتكتلات (منهم اثنان من دعم مصر).
يظهر الجسد الذى يبدو للناظرين خامدا بعض مؤشرات للحياة.
العام الثانى للنكسة
هذا هو العام الثانى الذى تقدم فيه الحكومة موازنة غير متوافقة مع الدستور. فقد ألزم الدستور الحكومة برفع الإنفاق على التعليم والتعليم العالى والصحة والبحث العلمى إلى حد أدنى، بلغ مجموعه ١٠٪ من الدخل القومى، بحلول عام ٢٠١٦ــ ٢٠١٧ أى منذ موازنة العام المالى الذى بدأ فى يوليو ٢٠١٦.
كما ألزمها الدستور أيضا بأن ترتفع هذه النسبة تدريجيا حتى تصل إلى المعدلات العالمية، حيث أن هذا الحد الأدنى الدستورى من الإنفاق الحكومى أقل كثيرا مما تنفقه حكومات الدول المتقدمة، وأيضا تلك الدول التى تنشد طريق التنمية فعلا لا قولا. كل ذلك تم تجاهله.
لكن هذا ما صار يعرفه الكثيرون اليوم. فماذا عن تلك المخالفات الدستورية التى لا يعرفها أحد؟
الطريف، أنه فى حين حاولت الحكومة التغطية ــ بشكل مفضوح وغير علمى على عدم زيادة ــ بل نقصان ــ الإنفاق على التعليم والصحة، نسيت أن تقدم شيئا ولو بالكذب عن عدم الالتزام بمخصصات البحث العلمى.
كما لا يسائل أحد الحكومة عن تلك المادة فى الدستور التى تلزمها بمد التعليم الإلزامى إلى شهادة الثانوية العامة – والواجب تنفيذها أيضا منذ العام الماضى.
ولأن مجلس النواب سكت العام الماضى، فقد دخلت الحكومة «بحمارها»، بحسب القول الشعبى، فى موازنة العام الحالى.
فقد ربط الدستور زيادة الإنفاق على التعليم والصحة بزيادة الناتج والدخل القومى، فكلما نما الاقتصاد، نمت معه موارد الدولة (خاصة فى شكل ضرائب)، وبالتالى وجب عليها أن توجه جزءا من هذه الزيادة إلى الإنفاق الاجتماعى، والعكس. فماذا حدث خلال الأعوام الأربعة الماضية، منذ إقرار الدستور، وإعطائه مهلة للحكومة تسمح بالتدرج فى رفع موازنات التعليم والصحة؟
نما الاقتصاد، بمعدلات فاقت ٣٪، ولكن نقصت ــ عاما بعد آخر ــ تلك النسبة الموجهة منه إلى المجالات التى يريدها الشعب.
اليوم، صار المخصص لكل من التعليم والصحة نصف المبلغ الذى فرضه الاستحقاق الدستورى. ويعنى ذلك أن يضطر كل مواطن إلى سد تلك الفجوة من جيبه، ولن يستطيع. وذلك كى ينقذ ابنه من الموت، أو من البطالة المزمنة، أو البطالة المزمنة المفضية إلى الموت. فكم بلغت تلك الفجوة؟
الحكومة تقول الصدق للصندوق فقط.
كان المطلوب خلال العام الجارى من أجل الوفاء بالالتزام الدستورى حوالى ٦٤ مليار جنيه. هذه الحسبة هى بناء على ما قدمته الحكومة من وثائق لصندوق النقد الدولى، قبل إعداد موازنة العام الماضى، وذلك عن طريق ضم بعض أوجه الإنفاق على الصحة، ولكنها غير محتسبة فى موازنة قطاع الصحة (ولم تجد ما تضمنه للتعليم والبحث).
ذلك على عكس ما قدمته لنا وللبرلمان من هراء ضم الصرف الصحى وتقسيم بند الفوائد على الصحة والتعليم وغيرها.
أما لو احتسبنا ما خصصته لقطاع الصحة بحسب الموازنة، فالمبلغ المطلوب لسد فجوة للتعليم والصحة كان يصل إلى ٩٠ مليار جنيه.
فقد حرمت الحكومة المواطنين من مبلغ يتراوح بين ٦٠ و٩٠ مليارا من الجنيهات، متعللة بعجز الموازنة وقلة الموارد. ثم دارت الأيام، وقارب هذا العام المالى على الانتهاء، فهل تعلم كم تجاوزت الحكومة فى إنفاقها عن المخطط الذى وافق عليه البرلمان؟ أكثر من ثمانين مليار جنيه. وكأنها تخرج للمصريين لسانها.
«نعم، اقترضتُ ثمانين مليار زيادة عن المخطط، ولكنى وجهتها لأغراض أخرى غير التعليم والصحة. وسأفلت بأكثر من ذلك خلال العام القادم، حين توافقون على الموازنة العامة التى بين أيديكم»، هكذا تقول أفعال الحكومة فهل تنجو بها؟
التعويم به سم قاتل..
جاء التعويم ليحرم الملايين من المصريين من فرص تقدم أبنائهم وبلدهم. كانت الاستثمارات الموجهة للتعليم قبل التعويم لا تكفى سوى لبناء ربع الفصول الدراسية التى تحتاجها وزارة التعليم. أما اليوم، فقد قلصت الحكومة ما توجهه لقطاع التعليم، بدلا من رفعه. والأمر نفسه بالنسبة للصحة، وذلك بسبب التضخم الذى تسبب فيه التعويم. فقد انخفضت قيمة الجنيه إلى أقل من النصف، وعليه، رغم ما يبدو على مخصصات التعليم والصحة من زيادة شكلية، انخفض الإنفاق الحقيقى عليهما بـ ١٩.٣٪ و١١.٦٪ على التوالى.
البدائل المتاحة كبداية لفتح النقاش
المبلغ المطلوب كحد أدنى مهول، ناهيك عن ذلك المطلوب كى نكون مثل ماليزيا أو المجر أو البرازيل، ولا نقول مثل الصين. ولكن..
أولا: يجب الاعتراف بالمشكلة وبحجمها. بدلا من التغطية عليها بإمضاء من البرلمان والرئاسة.
ثانيا: وضع خطة زمنية لتغطية الفجوة المالية. وهنا، تلوح عدة طرق لزيادة سريعة فى المخصصات المطلوبة.
أسهلها إعادة إقرار حزمة ضرائب العدالة الضريبية التى فرضتها حكومة حازم الببلاوى (يشغل الرجل حاليا منصبا بصندوق النقد الدولى يمكنه من إقناع رؤسائه هناك بالموافقة) ثم ما لبث وألغاها الرئيس الانتقالى عدلى منصور، بعد ضغط جماعات رجال الأعمال، ثم أيده البرلمان لاحقا.
توفر هذه الحزمة وحدها ما يقرب من ٢٥ مليار جنيه. هذا إضافة إلى أثرها الإيجابى على العدالة الاجتماعية، حيث كانت تلك الضرائب لا تستهدف سوى جانب بسيط من الثروة المتراكمة لدى أصحاب الدخول العليا، وشرائح الدخل التى تزيد عن خمسة ملايين جنيه سنويا.
أيضا، يلاحظ من البيانات التى نشرتها وزارة المالية عن الموازنة فى خطوة محمودة لدعم الشفافية، أن الحكومة لم تدرج أى من عائدات الخصخصة التى تعهدت للصندوق بالقيام بها فى مشروع الموازنة المقدم إلى مجلس النواب.
بالتالى، يمكنها أن تتعهد أمام مجلس النواب بتوجيه كل حصيلة بيع حصة من بنك القاهرة وأخرى من بنك الإسكندرية وكذلك حصة من شركة إنبى إلى قطاعات التعليم والصحة والبحث العلمى، بدون أن يؤثر ذلك على عجز الموازنة المخطط. فقد يجعل ذلك المواطنين أكثر تقبلا لعملية بيع أصولهم المربحة.
هناك أيضا من الموارد ما يذهب إلى جيوب الأغنياء، فكأن الموازنة تعيد توزيع الدخول، فتأخذ من جيوبنا لتصب المليارات فى جيوب الفئات الأغنى، والمثال الأكبر على ذلك هو الفوائد. ذلك البند الذى لم يكن له شأن منذ عشرين عاما، فصار اليوم يلتهم أكثر من ثلث الموازنة. لننظر كم التهم قرار رفع الفائدة الأخير الذى اتخذه البنك المركزى من حقنا فى التعليم وفى الصحة.
حيث تبلغ تكلفة رفع سعر الفائدة الذى لم ينجح فى محاربة التضخم ما يزيد على ٤٠ مليار جنيه، بحسب حسابات مبنية على بيانات وزارة المالية. وهى مبالغ تدخل جزء منها فى جيوب قلة من المواطنين، سيستفيدون أكثر لو حاربت الحكومة التضخم والجهل والمرض.
والأهم أن تلك الفوائد تصب مباشرة فى أرباح قلة من البنوك وهى قد صارت مع البنك المركزى مركز ضغط جديد والمستفيد الأكبر من عجز الموازنة. ويثير الأمر التساؤل حين نعلم أن مصر تملك أعلى معدل فوائد على الدين العام مقارنة بكل الدول التى لديها نفس حجم الدين أو أكثر، وفقا للبنك الدولى.
ولا يقتضى الأمر سوى التفاوض مع البنوك (معظمها قطاع عام، أى حكومة فى حكومة، على تخفيض سعر الفائدة، وتمديد آجال السداد). عملية توفر فى خطوة واحدة مئات المليارات لصالح الإنفاق الاجتماعى المنشود.
الفوائد المرتفعة هى العدو الأول لزيادة الإنفاق على التعليم والصحة.
لنكن على يقين. الموازنة العامة كلها براح. وما هى إلا انعكاس لمراكز قوى سياسية. لا تكمن المشكلة فى محدودية الموارد، ولكن فيمن يتحكم فى القرارات السياسية المتعلقة بهذه الكعكة غير المحدودة من الموارد.
أغلب الظن أن البرلمان لن يستطيع قلب موازين القوى تلك، وأنه ــ على ما سمعناه من اعتراضات حميدة ــ سيوافق على الموازنة. فهل لنا أن نطمع فقط فى الاعتراف بعدم دستورية الموازنة وبتعهد بتعديل تدريجى للوضع يدرج فى قانون ربط الموازنة؟