قادتنى ظروف تواجدى فى كاليفورنيا وأيام العيد إلى مقابلة العديد من المصريين الأمريكيين الذين لا بد أن أشيد بتخصصاتهم ومهنهم شديدة الأهمية سواء فى الطب أو الهندسة أو الكمبيوتر والذكاء الاصطناعى وإدارة الأعمال وغيرها، واستمعت بشغف كبير إلى حواراتهم الجادة والحادة بشأن الدور الأمريكى فى الخارج والسياسة الداخلية، وعلى الرغم من انقسامهم بالتساوى تقريبا بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى، وحماس كل طرف للحزب الذى يهواه، إلا أنهم بلا استثناء كانوا فى صف الإدارة الأمريكية بشأن المساندة اللا محدودة لأوكرانيا بغية وضع حد «لعدوان روسيا» وحرصا على الدور الدولى الحيوى للولايات المتحدة.
وحينما خلدت إلى نفسى بدأت فى التساؤل حول هذه المعلومات السياسية التى يحملها هؤلاء العلماء والخبراء ودورها فى خلق هذا الحماس منقطع النظير للإعلاء بدور الولايات المتحدة والحرص على مكانتها فى العالم. ورأيتنى أعود إلى موضوع الثقافة السياسية باعتباره أساس التنمية والعلاج الناجع لمعضلتها. لا بد من الإشارة إلى أن المصطلح قد بدأ وتعمق وانتشر فى الولايات المتحدة فى ستينيات القرن الماضى على أيدى علماء كبار مثل لوشيان باى وجابريل ألموند وسيدنى فيربا وغيرهم. ثم انتشر فى العالم الثالث حين بدأت عمليات بناء الدولة القومية الحديثة، ويخطئ من يقصر الثقافة السياسية على عملية التصويت فى الانتخابات أو على علاقة المواطن بالسلطة، لأن ذلك تقزيم لمفهوم أوسع وأكثر إبداعا وتأثيرا عن هذا الحيز الضيق من الحياة السياسية. والثقافة السياسية تشمل مجموعة المعارف والاتجاهات ونظام القيم نحو الدولة ذلك الكيان الحيوى المستدام، والسلطة المسئولة عن إدارتها، ونحو الولاء والانتماء. إنها تلك القوة الرمزية التى تدفع إلى تشكيل الهوية الوطنية وتحث المواطنين على احترامها والتمسك بها والدفاع عنها. إنها كذلك القوة الدافعة للتعبئة الوطنية خلف التنمية الشاملة؛ الاقتصادية والسياسية والبشرية وما شابهها، وإذا كانت عملية بناء المؤسسات تعد أحد الشروط الحاكمة لبناء الدولة الوطنية، فإن الثقافة السياسية تمثل وقودها المتوهج الذى يعلى من شأنها ويكرس احترام المواطن لها.
• • •
نظرا لأن الثقافة السياسية تعنى القيم والاتجاهات ونظم الاعتقاد، فإنها تصير عملية طويلة المدى، تتطلب جهودا وخططا مدروسة وفعالة لترسيخها والإيمان بها والتعبير عنها فى شكل سلوك وطنى إيجابى واعٍ. ويثير ذلك السؤال البديهى حول أدوات ومصادر الثقافة السياسية، وفى هذا الصدد يخضع المواطن لعملية هامة يطلق عليها التنشئة السياسية، وهى التى يتم بها الإعداد الذهنى للمواطن لاستيعاب دوره فى المجتمع من نشأته إلى نضوجه ومشاركته فى تنمية الدولة وبناء المجتمع الحديث. وتتفاوت مؤسسات بناء الثقافة السياسية باختلاف الدول وأنظمتها السياسية، ففى دول الحزب الواحد تتم كلها فى إطاره وبشكل مركزى، ويتم تلقين المواطنين عبر أجهزة الحزب فى مختلف المستويات والأقاليم، وفى دول الحزب الواحد المسيطر، يقوم الحزب بنفس الدور وإن شاركته الأحزاب الصغرى حسب برامجها وتوجهاتها. وفى الدول الأخرى تتعدد مصادر الثقافة السياسية ما بين الأحزاب والنوادى الاجتماعية والمؤسسات التعليمية ومؤسسة الإعلام، وفوق ذلك، تستخدم هذه النظم كلها النظام التعليمى والنظام الإعلامى لغرس القيم والاتجاهات الإيجابية، التى تسهم فى الدفع بالمواطن للإيمان بخطط التنمية ورؤى تطور الدولة.
تشير الدراسات المتخصصة فى هذا الشأن إلى محورية دور مؤسسات التعليم فى غرس مضمون ومكونات الثقافة السياسية فى نفوس التلاميذ والطلاب سواء بمضمون المقررات أو الأنشطة الطلابية أو توظيف الاحتفالات والأعياد الوطنية لشرح قصة صعود الدولة وكيفية حل تعقيدات التقدم. فالأعياد الوطنية ليست مجرد فرصة لإجازة إضافية، ولكنها توضع فى المناهج لترسيخ قيم الوطنية والتفاخر بالدولة.
وهنا تأتى أهمية المناهج الوطنية، خصوصا تلك المتعلقة بالدراسات الاجتماعية أو تاريخ الأمة، وعلى الرغم من الانصراف عن الإعلام التقليدى إلا أنه لا يزال يلعب دورا فاعلا عبر المناقشات والحوارات فى غرس قيم واتجاهات العمل الجماعى لنصرة المصالح العامة. ويبدو أن المصدر الإعلامى الأقوى اليوم للثقافة السياسية يكمن فى وسائل التواصل الاجتماعى والتى تتميز بالإتاحة والسرعة والكونية، وهى وسائل صارت أكثر فاعلية، وربما مصداقية، عما سواها. وبالرغم من مخاطر ذلك إلا أنها طبيعة العصر وأحد أهم معالم التقدم التكنولوجى فى وسائل التواصل بين البشر.
• • •
على الرغم من أن الثقافة السياسية هى مسألة وطنية ومحلية بالأساس إلا أن هناك مظهرين يشيران إلى محاولات دفعها إلى العالمية، فمن ناحية، تعظم بعض الدول دور قوتها الناعمة لنشر ثقافتها السياسية خارج حدودها. فالولايات المتحدة تستخدم هوليوود فى ذلك مثلا، كما تحاول المنظمات الدولية سواء الأمم المتحدة أو وكالاتها المتخصصة خلق نوع من الثقافة السياسية المغلفة. فقد أصدرت الأمم المتحدة من قبل الأهداف الأممية ثم أهداف التنمية المستدامة وتم تعبئة الدول والرأى العام الدولى خلفها خصوصا ما يتعلق منها بالقضاء على الفقر أو إتاحة التعليم أو حماية البيئة، وهى محاولات لم تستطع أن تزعزع الخاصية الوطنية للثقافة السياسية.
وقد تبنت الدول العربية، حتى وقت قريب، مضمونا قوميا للثقافة السياسية حوت مفاهيم القومية العربية كجزء أصيل من الهوية الوطنية، وأكدت على اتجاهات التكامل والتعاون العربى فى إطار النظام الإقليمى العربى؛ وحاولت دول ومؤسسات خلق شكوك حول كل ذلك بطرح مفاهيم كالشرق الأوسط الكبير أو الشرق الأوسط الجديد، وهو ما يستلزم لمواجهة ديناميكية النظام الدولى قيد التشكيل، إعادة التأكيد فى الثقافة السياسية العربية فى كل دولنا العربية على الهوية العربية كأساس للتنمية العربية سواء فى الصناعة أو الزراعة أو الخدمات أو التكنولوجيا ويشكل ذلك أحد التحديات الكبرى للدولة العربية الحديثة.